You are here

مؤتمر مواطن السنوي الثاني والعشرون: التحديات المركبة أمام الجامعات الفلسطينية: هل من مخرج؟

Primary tabs

تاريخ المؤتمر/الندوة:
30 أيلول / سبتمبر و 1 تشرين الأول / أكتوبر 2016

التحديات المركبة أمام الجامعات الفلسطينية: هل من مخرج؟

يعنى مؤتمر مواطن السنوي الثاني والعشرون بجوانب محددة تتعلق بالجامعات الفلسطينية، لم يجرِ الحوار والنقاش العلني الهادف حولها منذ أعوام خلت. وحتى الدراسات التحليلية والنقدية التي نشرت حول الموضوع، ركّزت في الغالب على نواحٍ جزئية تفصيلية، ويندر أن تعرضت، بشكل منتظم، إلى النواحي الكلية وما يترتب عنها من استخلاصات ونتائج يمكن أن ترشد التوجه العام للجامعات وصنع القرار فيها.

(1)

وقد تكون إحدى نقاط الانطلاق في تقييم وضع الجامعات الفلسطينية القول أو المحاججة إن معظمها يعاني من أزمة هوية لا تقتصر على تلك المرتبطة بعملية إنتاج المعرفة في ظل الظرف الاستعماري. فهي تريد أن تكون جامعات بحثية من جهة، وتريد، من جهة أخرى، أن تكون جامعات تركز أيضاً على نوعية التعليم ونوعية خريجيها، لكنها غير قادرة على الجمع بين هذين الهدفين في الواقع، بحيث تتميز بأحدهما عن الجامعات العربية، أو بالاثنين معاً، وهو هدف أصعب في كل الأحوال، ناهيك عن تميزها على صعيد عالمي.

ولهذه الأزمة في الهوية أبعادعدة؛ فقد يقال مثلاً، إن التميز تلزمه مقومات مادية تفتقر لها أغلبية الجامعات الفلسطينية، أو بعبارة أكثر صراحة، إن الفقر والعلم لا يتساوقان. لكن تجربة التعليم العالي في الدول العربية الثرية، بيَّنت بوضوح أن الثراء قد يكون شرطاً ضرورياً، ولكنه ليس شرطاً كافياً للتميز. أما ما إذا كانت الجامعات الفلسطينية تحوز على معظم الشروط الأخرى الضرورية للتميز، فيرى العديدون من ذوي المعرفة والدراية بالتعليم العالي في فلسطين، أن عدداً لا بأس به منها موجود في الواقع، لكن أزمة الهوية هذه تحجب الرؤية وتسقط غشاوة على البصر والبصيرة خاصةً، وتدفع الجامعات باتجاهات غير مدروسة دون أولويات مؤسساتية واضحة ومبررة. وتزداد التحديات، بالطبع، بسبب الظرف الاستعماري الذي يلقي بثقله على التعليم العالي في فلسطين.

فكما هو معروف، من مقومات التميّز في الأبحاث، كم، وجودة، وتنوع، الكادر الأكاديمي، والخلفيات الدراسية لأعضائه، والنماذج التي تتلمذوا عليها، والقيم العلمية التي استبطنوها؛ وفترات التفرغ للدراسة في مراحلها المختلفة التي أمضوها. هذا إضافة إلى شروط العمل من عبء تدريسي يسمح بتخصيص الوقت الكافي للبحث، ومستلزمات ذلك من مصادر أو مختبرات وأجهزة، ومقومات معيشية تسمح بالتفرغ والصفاء الذهني، وتخصيص الوقت الضروري للإنجاز وعدم التفكير باقتناص فرص لزيادة الدخل بسبب عدم الاستقرار المادي الراهن والمستقبلي. وهذه الشروط جميعها فيها نواقص معروفة في الجامعات الفلسطينية على الرغم من المحاولات الجادة أحياناً للتقليل منها.

أما بالنسبة إلى التميّز في التعليم ومستوى الخريجين، فتعاني الجامعات الفلسطينية من جانبين: نوعية ومستوى خريجي المرحلة الدراسية السابقة، وبخاصة ضعف المهارات التحليلية والنقدية لمعظم خريجي المدارس، التي تشكل عقبة كبيرة أمام التميز في الدراسة الجامعية، أو حتى الضعف في الخلفية العلمية المناسبة لدراسة العلوم الطبيعية والتطبيقية. ولم يتم السعي حتى الآن، بشكل جاد وممنهج، إلى التغلب على هذه المعيقات نظراً للتكلفة الإضافية المترتبة، أو بسبب عدم تحديد الأولويات الناجم عن شقاء الوعي بفعل أزمة الهوية.

 

(2)

سيسعى المؤتمر السنوي الثاني والعشرون إلى فتح باب النقاش حول عدد من القضايا التفصيلية المنبثقة من "متلازمة" (syndrome) أزمة الهوية في الجامعات الفلسطينية، لغرض الإسهام في بلورة وتحديد الأولويات المجتمعية في ظل الإمكانات المتاحة للجامعات. ولهذا الغرض، سيتم تخصيص جلسات المؤتمر لموضوعات ذات علاقة، يلقي كل منها الضوء على جانب من جوانب الموضوع، إذ أنها بمجملها لها الأثر الأكبر في تحديد دور ومستوى التعليم العالي في فلسطين.

أ. أزمة التعليم العالي العربية: كتب الكثير من التقارير والدراسات حول أزمة التعليم العالي العربية خلال الأعوام العشرة الماضية، منها مستوى الجامعات عموماً، ونوعية خريجيها، وحضور الجامعات العربية عالمياً بموجب مؤشرات محددة أساساً هي النشر على مستوى "عالمي". هذا إضافة إلى البطالة الكبيرة بين خرجي الجامعات، والحاجة لإيجاد فرص عمل جديدة لهم، ... وهكذا. وتشترك فلسطين في عدد من هذه القضايا والإشكاليات مع الجامعات العربية، وبخاصة غير الميسورة منها. وعلى الرغم من وجود خصوصية فلسطينية كما هو الحال بالنسبة إلى كل دولة عربية على حدة، فإن نقاش الموضوع في مضمونه العربي من باب الدراسة المقارنة، أو من باب تبيان أوجه الاختلاف، قد يشكل أحد مداخل تناول الموضوع.

ومن بين الأسئلة التي تنشأ هنا، والتي من الممكن أن تتناولها أوراق محددة، التالية: ما هي العناصر المشتركة مع بعض الدول العربية التي تعيق رفع مستوى الجامعات؟ وهل توجد حلول أو محاولات أتت بقدر من النجاح يمكن الاقتداء بها؟ هل إن التحولات النيوليبرالية التي طغت على النظام العالمي أصابت التعليم العالي في العالم العربي بدعوتها إلى تقليص إنفاق الدولة على التعليم العالي والبحث العلمي؟ هل إن بعض المعيقات هي طرق إدارة الجامعات ومعايير التعيينات الإدارية فيها، أم هي البيروقراطية المكبلة، أم أن هذه أيضاً مرتبطة بطبيعة الأنظمة السياسية في الدول العربية؟ أم إن هذا كله مرتبط بالتحولات النيوليبرالية التي طالت حوكمة الجامعات، وطالت علاقة الجامعات بالسلطة السياسية؟ وفي الحالة الفلسطينية، إضافة إلى الاعتبارات السابقة، هل إن غياب الحماية القانونية الكافية للجامعات يسمح أحياناً بالتدخل لأغراض التعيين أو قبول طلبة غير مؤهلين، أو عدم فصل طلبة لهم علاقة بمراكز قوى خارج الحرم الجامعي، ويؤثر بمجمله على مستوى العمل داخل الجامعات؟ هل إن الصالح الخاص في فلسطين يشن حرباً شعواء على الجامعات؟ أم إن التعليم والبحث العلمي لا يفترض بهما أن يخدما الصالح العام بالضرورة؟

ب. البطالة وسوق العمل: بينما تشترك فلسطين مع الدول العربية بوجود نسبة عالية من البطالة بين خريجي الجامعات، تختلف الحالة الفلسطينية لأسباب واضحة، من بينها أن التنمية الاقتصادية المنشودة، التي تخلق فرص عمل للخرجين، مكبلة بفعل قيود الاحتلال، و في بعض الحالات قيود المانحين. وعلى الرغم من ذلك، توجد أسئلة لا بد من إثارتها: هل إن عدد الجامعات الفلسطينية ومن ثم خريجيها كل عام هو أكثر من الحاجة؟ كيف تُحدد سعة سوق العمل؟ وهل كان "سوق" الضفة الغربية وقطاع غزة أصلاً هو الموظف والمشغل الوحيد طيلة عقود سابقة؟ ما هي القدرة الاستيعابية لسوق العمل من مهارات ومعرفة محددتين؟ وهل أجريت دراسات كافية حول هذه الحاجات وأسباب تغيرها؟ هل إن التعليم العالي هدفه الوحيد تلبية الطلب في سوق العمل؟ وهل توجد حاجات أخرى مجتمعية على الدرجة نفسها من الأهمية؟ هل إن اندفاع خريجي الثانوية العامة إلى الجامعات في الحالة الفلسطينية يعكس أزمة أخرى، منها عدم وجود معاهد دراسات عليا تطبيقية كافية على شكل معاهد بوليتكنيك أو ما يرادفها، تؤهل الخريجين للتعامل مع حاجات تكنولوجية سريعة التطور يحتاجها السوق؟ وهل إن التقلص الكبير في فرص العمل داخل مناطق الـ 48 أدى إلى وجود بطالة مقنعة داخل الجامعات الفلسطينية "بهروب" خريجي الثانوية العامة إليها لتفادي البطالة لأربع أو خمس سنوات؟ ولماذا يعتبر البعض أن على الجامعات استيعاب ما أمكن من خريجي الثانوية العامة حتى على حساب النوعية؟ فهل دور الجامعات الإسهام في "استقرار" الوضع السياسي تحت الاحتلال وإرجاء البطالة لأربع أو خمس سنوات، بعدها يلام الاحتلال؟ هل يلعب الاعتماد على التمويل الأجنبي وعلى التنمية بوصفات المؤسسات الدولية دوراً في جر التعليم العالي إلى وضعه هذا بغية إلغاء الدور التاريخي للجامعات في المشروع التحرري؟

ج.جامعات بحثية أم جامعات تعليمية: يندر أن تسأل الجامعات الفلسطينية والعربية أيضاً في سعيها إلى "البروز" بين جامعات أخرى، وطموح بعضها إلى الوصول إلى "العالمية"، عن المعايير المستخدمة حالياً لهذه المنافسة التي تعتمد أساساً على النشر، وما يتبع ذلك من معايير تفصيلية مثل عدد الاقتباسات أو الإشارات إلى ما نشر في أبحاث أخرى. إن جل هذه المعايير يعتمد على النشر باللغة الإنكليزية، وهذا، من جهة، يعكس عولمة اللغة الإنكليزية، في وقتنا الحالي، ولكن، من جهة أخرى، يعكس أيضاً هيمنة واقعة غير حميدة يترتب عنها تمييز واضح إزاء النشر بلغات غير الإنكليزية، بما في ذلك العربية. وقد اختارت الجامعات الفلسطينية طرقاً عدة للتعامل مع "متلازمة" النشر هذه، منها النشر ما أمكن باللغة الإنكليزية، وبخاصة في العلوم الطبيعية والتكنولوجية التي تدرس مفرداتها باللغة الإنكليزية في كثير من الأحيان، ومن ثم يأتي النشر بهذه اللغة "طبيعياً" للبعض. أما الطريقة الأخرى لاستيفاء مستلزمات "المتلازمة" ومردودها على أعضاء هيئة التدريس، من حيث الترقية، والتقدم، فتكمن في أن تقوم الجامعات نفسها بإصدار مجلات متخصصة بالعربية تُعتمد لأغراض الترقية، ليتم النشر فيها، أو في بعض المجلات المتخصصة العربية. وتقع معظم هذه المجلات في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية.

والمشكلة هنا فيما يتعلق بالجامعات الفلسطينية لا تكمن في النشر أو عدمه. فالقيام بالأبحاث ونشرها أمر مطلوب ومحمود وهو في صلب عمل أعضاء الهيئة الأكاديمية، إضافة إلى التدريس وخدمة المجتمع. إن القضية الأساسية تكمن في الأسئلة التالية: هل حقيقة أنه من واجب الباحثين في الجامعات الفلسطينية إغناء "المعرفة الإنسانية" العالمية، في الشرق والغرب، على الرغم من الحاجات التنموية المحلية المباشرة، الفلسطينية والعربية، وعلى الرغم من محدودية الموارد؟ فالسؤال هنا عن الأولويات ودور إدارات الجامعات في وضع مؤشرات للأولويات، دون تقييد حديدي صارم مغالى فيه.أما إعطاء أهمية كبرى، كما يحصل أحياناً، للنشر باللغة الإنكليزية لأبحاث لا علاقة ضرورية لها بحاجات محلية أو عربية، وإعطاؤها أفضلية على النشر بالعربية، فلا تبريرَ واضحاً له، ويعكس فقط حاجة "نرجسية" للبروز دون رؤية لموقع هذه الجامعات ودورها. فالسؤال الأعم إذاً: ما هو دور البحث والنشر في الجامعات الفلسطينية وهل توجد أي توجهات للجامعات في هذا الخصوص؟ أو ما هي طبيعة عملية إنتاج المعرفة في الجامعة؟ وهل تشكل الجامعة مكوناً عضوياً في المجتمع؟ وهل يعتبر أساتذتها وخريجوها مثقفين عضويين؟

أما الاهتمام بالتعليم ونوعية الخريجين، فهذا أمر توجد ادعاءات كثيرة بخصوصه، لكن يعلم من عمل في هذه الجامعات أن معظم الطلبة يعاني من صعوبات لا يستهان بها، وبخاصة في المهارات المسماة خطأ "مهارات كتابية"، إذ إنها أساساً مهارات فكرية تنعكس في الكتابة على ورق، أو على شاشة في هذه الأيام. وليس المقصود هنا الإملاء أو القواعد على أهميتهما، بل مهارات التحليل والربط المنطقي والتفكير المنتظم، ومهارات التفكير "خارج الصندوق" كما يقال، والابتكار. وتعج برامج الماجستير في الجامعات الفلسطينية بخريجي جامعات مختلفة محلية يفتقر معظمهم إلى هذه المهارات الحيوية والمطلوبة في سوق العمل. وتتوالى الأسئلة هنا: لماذا لا تولي الجامعات الاهتمام الكافي بهذه الجوانب؟ ماذا يمكن عمله لإصلاح ما لم يتم إصلاحه في المرحلة الثانوية كما هو ضروري ومتوقع؟ ألا يوجد دور للجامعات في العمل على الضغط لإصلاح نظام التعليم في المدارس نظراً لأنها من أهم الأطراف التي تستقبل هؤلاء الخريجين؟ وبوجود ضغوطات متنوعة مجتمعية على الجامعات لقبول أكبر عدد ممكن من هؤلاء الخريجين، ألا يحق للجامعات وضع شروط للتأهيل تتعلق بمحتوى المناهج وطرق التدريس خاصة، ومساعدة المدارس في ذلك حتى تستجيب الجامعات إلى هذه الضغوطات؟ ولماذا ترى الجامعات، على ما يظهر، أن هذا ليس شأنها، وهل يكفي إلقاء اللوم على المدارس، والتهرب بهذا من المسؤولية؟

 

مؤتمر مواطن السنوي الثاني والعشرون

"التحديات المركبة أمام الجامعات الفلسطينية: هل من مخرج؟"

الجمعة،30 أيلول والسبت، 1 تشرين الأول 2016

 

يعنى مؤتمر مواطن السنوي الثاني والعشرون بجوانب محددة تتعلق بالجامعات الفلسطينية، لم يجرِ الحوار والنقاش العلني الهادف حولها منذ أعوام خلت. وحتى الدراسات التحليلية والنقدية التي نشرت حول الموضوع، ركّزت في الغالب على نواحٍ جزئية تفصيلية، ويندر أن تعرضت، بشكل منتظم، إلى النواحي الكلية وما يترتب عنها من استخلاصات ونتائج يمكن أن ترشد التوجه العام للجامعات وصنع القرار فيها.

(1)

وقد تكون إحدى نقاط الانطلاق في تقييم وضع الجامعات الفلسطينية القول أو المحاججة إن معظمها يعاني من أزمة هوية لا تقتصر على تلك المرتبطة بعملية إنتاج المعرفة في ظل الظرف الاستعماري. فهي تريد أن تكون جامعات بحثية من جهة، وتريد، من جهة أخرى، أن تكون جامعات تركز أيضاً على نوعية التعليم ونوعية خريجيها، لكنها غير قادرة على الجمع بين هذين الهدفين في الواقع، بحيث تتميز بأحدهما عن الجامعات العربية، أو بالاثنين معاً، وهو هدف أصعب في كل الأحوال، ناهيك عن تميزها على صعيد عالمي.

ولهذه الأزمة في الهوية أبعادعدة؛ فقد يقال مثلاً، إن التميز تلزمه مقومات مادية تفتقر لها أغلبية الجامعات الفلسطينية، أو بعبارة أكثر صراحة، إن الفقر والعلم لا يتساوقان. لكن تجربة التعليم العالي في الدول العربية الثرية، بيَّنت بوضوح أن الثراء قد يكون شرطاً ضرورياً، ولكنه ليس شرطاً كافياً للتميز. أما ما إذا كانت الجامعات الفلسطينية تحوز على معظم الشروط الأخرى الضرورية للتميز، فيرى العديدون من ذوي المعرفة والدراية بالتعليم العالي في فلسطين، أن عدداً لا بأس به منها موجود في الواقع، لكن أزمة الهوية هذه تحجب الرؤية وتسقط غشاوة على البصر والبصيرة خاصةً، وتدفع الجامعات باتجاهات غير مدروسة دون أولويات مؤسساتية واضحة ومبررة. وتزداد التحديات، بالطبع، بسبب الظرف الاستعماري الذي يلقي بثقله على التعليم العالي في فلسطين.

فكما هو معروف، من مقومات التميّز في الأبحاث، كم، وجودة، وتنوع، الكادر الأكاديمي، والخلفيات الدراسية لأعضائه، والنماذج التي تتلمذوا عليها، والقيم العلمية التي استبطنوها؛ وفترات التفرغ للدراسة في مراحلها المختلفة التي أمضوها. هذا إضافة إلى شروط العمل من عبء تدريسي يسمح بتخصيص الوقت الكافي للبحث، ومستلزمات ذلك من مصادر أو مختبرات وأجهزة، ومقومات معيشية تسمح بالتفرغ والصفاء الذهني، وتخصيص الوقت الضروري للإنجاز وعدم التفكير باقتناص فرص لزيادة الدخل بسبب عدم الاستقرار المادي الراهن والمستقبلي. وهذه الشروط جميعها فيها نواقص معروفة في الجامعات الفلسطينية على الرغم من المحاولات الجادة أحياناً للتقليل منها.

أما بالنسبة إلى التميّز في التعليم ومستوى الخريجين، فتعاني الجامعات الفلسطينية من جانبين: نوعية ومستوى خريجي المرحلة الدراسية السابقة، وبخاصة ضعف المهارات التحليلية والنقدية لمعظم خريجي المدارس، التي تشكل عقبة كبيرة أمام التميز في الدراسة الجامعية، أو حتى الضعف في الخلفية العلمية المناسبة لدراسة العلوم الطبيعية والتطبيقية. ولم يتم السعي حتى الآن، بشكل جاد وممنهج، إلى التغلب على هذه المعيقات نظراً للتكلفة الإضافية المترتبة، أو بسبب عدم تحديد الأولويات الناجم عن شقاء الوعي بفعل أزمة الهوية.

 

(2)

سيسعى المؤتمر السنوي الثاني والعشرون إلى فتح باب النقاش حول عدد من القضايا التفصيلية المنبثقة من "متلازمة" (syndrome) أزمة الهوية في الجامعات الفلسطينية، لغرض الإسهام في بلورة وتحديد الأولويات المجتمعية في ظل الإمكانات المتاحة للجامعات. ولهذا الغرض، سيتم تخصيص جلسات المؤتمر لموضوعات ذات علاقة، يلقي كل منها الضوء على جانب من جوانب الموضوع، إذ أنها بمجملها لها الأثر الأكبر في تحديد دور ومستوى التعليم العالي في فلسطين.

أ. أزمة التعليم العالي العربية: كتب الكثير من التقارير والدراسات حول أزمة التعليم العالي العربية خلال الأعوام العشرة الماضية، منها مستوى الجامعات عموماً، ونوعية خريجيها، وحضور الجامعات العربية عالمياً بموجب مؤشرات محددة أساساً هي النشر على مستوى "عالمي". هذا إضافة إلى البطالة الكبيرة بين خرجي الجامعات، والحاجة لإيجاد فرص عمل جديدة لهم، ... وهكذا. وتشترك فلسطين في عدد من هذه القضايا والإشكاليات مع الجامعات العربية، وبخاصة غير الميسورة منها. وعلى الرغم من وجود خصوصية فلسطينية كما هو الحال بالنسبة إلى كل دولة عربية على حدة، فإن نقاش الموضوع في مضمونه العربي من باب الدراسة المقارنة، أو من باب تبيان أوجه الاختلاف، قد يشكل أحد مداخل تناول الموضوع.

ومن بين الأسئلة التي تنشأ هنا، والتي من الممكن أن تتناولها أوراق محددة، التالية: ما هي العناصر المشتركة مع بعض الدول العربية التي تعيق رفع مستوى الجامعات؟ وهل توجد حلول أو محاولات أتت بقدر من النجاح يمكن الاقتداء بها؟ هل إن التحولات النيوليبرالية التي طغت على النظام العالمي أصابت التعليم العالي في العالم العربي بدعوتها إلى تقليص إنفاق الدولة على التعليم العالي والبحث العلمي؟ هل إن بعض المعيقات هي طرق إدارة الجامعات ومعايير التعيينات الإدارية فيها، أم هي البيروقراطية المكبلة، أم أن هذه أيضاً مرتبطة بطبيعة الأنظمة السياسية في الدول العربية؟ أم إن هذا كله مرتبط بالتحولات النيوليبرالية التي طالت حوكمة الجامعات، وطالت علاقة الجامعات بالسلطة السياسية؟ وفي الحالة الفلسطينية، إضافة إلى الاعتبارات السابقة، هل إن غياب الحماية القانونية الكافية للجامعات يسمح أحياناً بالتدخل لأغراض التعيين أو قبول طلبة غير مؤهلين، أو عدم فصل طلبة لهم علاقة بمراكز قوى خارج الحرم الجامعي، ويؤثر بمجمله على مستوى العمل داخل الجامعات؟ هل إن الصالح الخاص في فلسطين يشن حرباً شعواء على الجامعات؟ أم إن التعليم والبحث العلمي لا يفترض بهما أن يخدما الصالح العام بالضرورة؟

ب. البطالة وسوق العمل: بينما تشترك فلسطين مع الدول العربية بوجود نسبة عالية من البطالة بين خريجي الجامعات، تختلف الحالة الفلسطينية لأسباب واضحة، من بينها أن التنمية الاقتصادية المنشودة، التي تخلق فرص عمل للخرجين، مكبلة بفعل قيود الاحتلال، و في بعض الحالات قيود المانحين. وعلى الرغم من ذلك، توجد أسئلة لا بد من إثارتها: هل إن عدد الجامعات الفلسطينية ومن ثم خريجيها كل عام هو أكثر من الحاجة؟ كيف تُحدد سعة سوق العمل؟ وهل كان "سوق" الضفة الغربية وقطاع غزة أصلاً هو الموظف والمشغل الوحيد طيلة عقود سابقة؟ ما هي القدرة الاستيعابية لسوق العمل من مهارات ومعرفة محددتين؟ وهل أجريت دراسات كافية حول هذه الحاجات وأسباب تغيرها؟ هل إن التعليم العالي هدفه الوحيد تلبية الطلب في سوق العمل؟ وهل توجد حاجات أخرى مجتمعية على الدرجة نفسها من الأهمية؟ هل إن اندفاع خريجي الثانوية العامة إلى الجامعات في الحالة الفلسطينية يعكس أزمة أخرى، منها عدم وجود معاهد دراسات عليا تطبيقية كافية على شكل معاهد بوليتكنيك أو ما يرادفها، تؤهل الخريجين للتعامل مع حاجات تكنولوجية سريعة التطور يحتاجها السوق؟ وهل إن التقلص الكبير في فرص العمل داخل مناطق الـ 48 أدى إلى وجود بطالة مقنعة داخل الجامعات الفلسطينية "بهروب" خريجي الثانوية العامة إليها لتفادي البطالة لأربع أو خمس سنوات؟ ولماذا يعتبر البعض أن على الجامعات استيعاب ما أمكن من خريجي الثانوية العامة حتى على حساب النوعية؟ فهل دور الجامعات الإسهام في "استقرار" الوضع السياسي تحت الاحتلال وإرجاء البطالة لأربع أو خمس سنوات، بعدها يلام الاحتلال؟ هل يلعب الاعتماد على التمويل الأجنبي وعلى التنمية بوصفات المؤسسات الدولية دوراً في جر التعليم العالي إلى وضعه هذا بغية إلغاء الدور التاريخي للجامعات في المشروع التحرري؟

ج.جامعات بحثية أم جامعات تعليمية: يندر أن تسأل الجامعات الفلسطينية والعربية أيضاً في سعيها إلى "البروز" بين جامعات أخرى، وطموح بعضها إلى الوصول إلى "العالمية"، عن المعايير المستخدمة حالياً لهذه المنافسة التي تعتمد أساساً على النشر، وما يتبع ذلك من معايير تفصيلية مثل عدد الاقتباسات أو الإشارات إلى ما نشر في أبحاث أخرى. إن جل هذه المعايير يعتمد على النشر باللغة الإنكليزية، وهذا، من جهة، يعكس عولمة اللغة الإنكليزية، في وقتنا الحالي، ولكن، من جهة أخرى، يعكس أيضاً هيمنة واقعة غير حميدة يترتب عنها تمييز واضح إزاء النشر بلغات غير الإنكليزية، بما في ذلك العربية. وقد اختارت الجامعات الفلسطينية طرقاً عدة للتعامل مع "متلازمة" النشر هذه، منها النشر ما أمكن باللغة الإنكليزية، وبخاصة في العلوم الطبيعية والتكنولوجية التي تدرس مفرداتها باللغة الإنكليزية في كثير من الأحيان، ومن ثم يأتي النشر بهذه اللغة "طبيعياً" للبعض. أما الطريقة الأخرى لاستيفاء مستلزمات "المتلازمة" ومردودها على أعضاء هيئة التدريس، من حيث الترقية، والتقدم، فتكمن في أن تقوم الجامعات نفسها بإصدار مجلات متخصصة بالعربية تُعتمد لأغراض الترقية، ليتم النشر فيها، أو في بعض المجلات المتخصصة العربية. وتقع معظم هذه المجلات في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية.

والمشكلة هنا فيما يتعلق بالجامعات الفلسطينية لا تكمن في النشر أو عدمه. فالقيام بالأبحاث ونشرها أمر مطلوب ومحمود وهو في صلب عمل أعضاء الهيئة الأكاديمية، إضافة إلى التدريس وخدمة المجتمع. إن القضية الأساسية تكمن في الأسئلة التالية: هل حقيقة أنه من واجب الباحثين في الجامعات الفلسطينية إغناء "المعرفة الإنسانية" العالمية، في الشرق والغرب، على الرغم من الحاجات التنموية المحلية المباشرة، الفلسطينية والعربية، وعلى الرغم من محدودية الموارد؟ فالسؤال هنا عن الأولويات ودور إدارات الجامعات في وضع مؤشرات للأولويات، دون تقييد حديدي صارم مغالى فيه.أما إعطاء أهمية كبرى، كما يحصل أحياناً، للنشر باللغة الإنكليزية لأبحاث لا علاقة ضرورية لها بحاجات محلية أو عربية، وإعطاؤها أفضلية على النشر بالعربية، فلا تبريرَ واضحاً له، ويعكس فقط حاجة "نرجسية" للبروز دون رؤية لموقع هذه الجامعات ودورها. فالسؤال الأعم إذاً: ما هو دور البحث والنشر في الجامعات الفلسطينية وهل توجد أي توجهات للجامعات في هذا الخصوص؟ أو ما هي طبيعة عملية إنتاج المعرفة في الجامعة؟ وهل تشكل الجامعة مكوناً عضوياً في المجتمع؟ وهل يعتبر أساتذتها وخريجوها مثقفين عضويين؟

أما الاهتمام بالتعليم ونوعية الخريجين، فهذا أمر توجد ادعاءات كثيرة بخصوصه، لكن يعلم من عمل في هذه الجامعات أن معظم الطلبة يعاني من صعوبات لا يستهان بها، وبخاصة في المهارات المسماة خطأ "مهارات كتابية"، إذ إنها أساساً مهارات فكرية تنعكس في الكتابة على ورق، أو على شاشة في هذه الأيام. وليس المقصود هنا الإملاء أو القواعد على أهميتهما، بل مهارات التحليل والربط المنطقي والتفكير المنتظم، ومهارات التفكير "خارج الصندوق" كما يقال، والابتكار. وتعج برامج الماجستير في الجامعات الفلسطينية بخريجي جامعات مختلفة محلية يفتقر معظمهم إلى هذه المهارات الحيوية والمطلوبة في سوق العمل. وتتوالى الأسئلة هنا: لماذا لا تولي الجامعات الاهتمام الكافي بهذه الجوانب؟ ماذا يمكن عمله لإصلاح ما لم يتم إصلاحه في المرحلة الثانوية كما هو ضروري ومتوقع؟ ألا يوجد دور للجامعات في العمل على الضغط لإصلاح نظام التعليم في المدارس نظراً لأنها من أهم الأطراف التي تستقبل هؤلاء الخريجين؟ وبوجود ضغوطات متنوعة مجتمعية على الجامعات لقبول أكبر عدد ممكن من هؤلاء الخريجين، ألا يحق للجامعات وضع شروط للتأهيل تتعلق بمحتوى المناهج وطرق التدريس خاصة، ومساعدة المدارس في ذلك حتى تستجيب الجامعات إلى هذه الضغوطات؟ ولماذا ترى الجامعات، على ما يظهر، أن هذا ليس شأنها، وهل يكفي إلقاء اللوم على المدارس، والتهرب بهذا من المسؤولية؟