You are here

Revision of التربية التحررية النقدية from Wed, 11/03/2021 - 09:31

المؤلف/ة
حُدّث بتاريخ:
21 آب/أغسطس 2021
معلومات بيبليوغرافية

يرجع مفهوم التربية التحررية النقدية (critical pedagogy or emancipatory education) إلى المفكر البرازيلي باولو فريري (19211997) الذي عمل في مجال محو الأمية للكبار في بداية حياته. وفي أول وأشهر كتاب له، (فريري، 2003)، بين فريري أن التربية دائما عملية سياسية، وهي إما تعمل على التدجين، أي كتنشئة اجتماعية في مجتمع غير عادل من أجل الحفاظ على الوضع القائم، أو كتربية من أجل التحرر أو ما أسماها "بيداغوجية المقهورين"، أي من أجل التغيير الاجتماعي وبناء مجتمع أكثر عدالة.  وتعمل التربية التقليدية، "التربية البنكية"، على التدجين، بينما تعمل التربية التحررية النقدية، "تربية طرح المشكلات"، على التحرر.

فالتربية التقليدية ذات طابع سردي: معلم يسرد وطلبة يحفظون، ويصبحون أوعية يجب ملؤها من قبل المعلم. والطالب يستلم المعلومة ويحفظها ويرددها عندما يطلب منه ذلك، ولذلك تشبه العملية عملية إيداع نقود في البنك من أجل حفظها واسترجاعها لاحقا. وتصبح المعرفة هدية يقدمها المعلم للطلبة الصبورين، والجاهلين، والذين لا صوت لهم. وهذه التربية جائرة، فهي تعتبر الطلبة أشياء يمكن تشكيلها والسيطرة على فكرها وأفعالها. وتصبح المعرفة ساكنة وبدون حياة، ويصبح المعلم سلطوياً. وتخفي هذه التربية الواقع الاجتماعي كعلاقات القوة وعدم المساواة، وتسهم في تبني الطلبة لوعي القاهرين. كما تخنق الإبداع أو الخيال النقدي الضروري لمواجهة البنى الجائرة.  فالقهر هو نشاط تربوي، حيث يتم إيقاف الحوار، وفصل المعرفة والتأمل عن الفعل، ويصبح الطلبة معتمدين على معلميهم وقامعيهم، ولا يستطيعون التأثير على واقعهم.

مقابل ذلك، يتصور فريري التربية كسبيل لتحقيق سعي البشرية الواعي والدائم نحو الكمال في سياق عالمين اجتماعي ومادي دائمي التغير. والآلية لذلك هي العلاقة الديالكتيكية بين الفعل والتأمل (praxis)، حيث يؤدي الفعل إلى تأمل نقدي، وهذا بدوره يؤدي إلى الفعل. ويعتمد التأمل على الحوار بين الناس عندما يواجهون مواقف محسوسة. والحوار الحقيقي يتغلب على علاقات السيطرة بين الأشخاص، بين المعلم الطلبة، ويفتح المجال لعلاقات تحررية تتسم بخمسة جوانب: التواضع، التعاطف، الحب، الأمل، الحوار.

ويعتقد فريري أنه من أجل التحرر من القهر يجب على الناس القيام بذلك بأنفسهم، ويصبح هدف التعلّم الهام التخلي عن الوعي الزائف وتطوير الوعي الناقد لدى المتعلمين. ويوصي فريري بتعلّم يبدأ بقيام المتعلمين أنفسهم بصياغة المشكلات التي تواجههم، ويتبع ذلك الحوار النقدي، فصياغة الحلول وخطط العمل. وتكون العلاقة بين المعلم والطلبة أفقية، بدلا من هرمية، حيث يتعلّم ويعلّم المعلمون والطلبة بعضهم بعضاً. وهذا النوع من العلاقات هو المهم في التعليم التحرري، فلا فائدة، حسب فريري، من تزويد الطلبة بمعلومات عن طبيعة القهر في المساهمة في تحررهم، بل لا بد من حوار حقيقي من أجل إدراك الحقيقة وإزالة الحجاب عن الواقع. فالتربية التحررية النقدية، إذن، تهدف أساسا إلى تحرير الإنسان، إلى جعله أكثر إنسانية، من خلال تمكينه من أجل تغيير المجتمع غير العادل الذي يعيش فيه. والأساليب المستخدمة فيها تحررية تركز على المساواة والحوار. وهي أخيرا تحرر المتعلّم من خلال تطوير الوعي الناقد لديه وربط هذا التغير بالفعل من أجل تغيير المجتمع.

ولم يكن فريري التربوي الوحيد الذي ركز على تطوير التفكير الناقد واعتبار التربية أداة للتحرر. فكثير غيره من الفلاسفة والتربويين، منذ أفلاطون وأرسطو قديما، ومنذ عصر التنوير في أوروبا، ذكّروا بأهمية التربية في تطوير قدرات الفرد الفكرية والنقدية، أي الحرية الفكرية (انظر على سبيل المثال، Siegel, 2017)، وعلى أهمية ذلك في تحريره من الاعتقادات الخاطئة.  كما ركز هؤلاء على أهمية التخصصات أو فروع المعرفة المختلفة، إذا ما عرضت للمتعلّم بشكل جيد، في تحرير العقل من محدوديات الخبرات اليومية العادية، ومن التفكير الذي تفرضه التقاليد والعادات والمحرمات. وهذا التوجه في التربية يسمىى التربية التحررية (liberal education). ولكن فريري قد يكون أول من ركّز على أهمية الحوار، وبالتالي العمل الجماعي، وليس التحرر الفردي. كما أنه ركّز على أهمية التأمل الناقد وربط التعلّم بالفعل من أجل إحداث التغيير الاجتماعي. فريري واضح في تبيانه للدور السياسي للتربية، في إدانته للتعليم التقليدي، بعكس غيره من منظري التربية التحررية، وفي إيضاح دورالتربية في إعادة إنتاج تركيبة المجتمع غير العادلة، ومقابل ذلك، في التركيز على دور التربية التحررية النقدية (emancipatory education or critical pedagogy) في تغيير المجتمع.

وقد تطور الفكر التربوي التحرري (ونعني به التحرري النقدي فيما بعد في هذا الإدخال)، بتأثير من أفكار فريري، في عدّة دول، سواء في دول نامية أم في الغرب. فكان هنالك تأثير عملي لأفكاره في كل من البرازيل ونيكاراغوا. وفي الولايات المتحدة طور أكاديميون أفكاره في تحليل دور التربية في إقامة مجتمع ديمقراطي وعادل، ومن أهمهم بيتر ماكلارين (Peter McLaren)، وهنري جيرو(Henry Giroux)، وآيرا شور(Ira Shore). وتجدر الإشارة إلى أن ما يجمع هؤلاء المفكرين والتربويين هو الفكر الماركسي اليساري. فقد تأثر فريري بأفكار كل من كارل ماركس وأنطونيو جرامشي وفرانس فانون، وينتمي المفكرون المذكورون أعلاه إلى نفس المدرسة الفكرية.

وقد اعتبر البعض أفكار فريري طريقة تعليم، وهذا الاختزال خاطئ. يجب النظر إلى أفكار فريري كتوجه تربوي فلسفي وبيداغوجي شامل.  فطرق التعليم في هذا التوجه تنبع من موقف سياسي اجتماعي لدى فريري، كما أن توجه فريري يؤسس على مسلمات حول طبيعة الإنسان. فالمتعلّم "يصنع" التاريخ والثقافة، حسب فريري، ويغير الواقع من خلال الفعل التأملي. بالتالي، فإن طرق التعليم تتبع هذه التوجه، وتتغير حسب السياق الذي يوجد فيه المتعلمون. أي يمكن التفكير بأن توجه فريري يؤدي إلى مبادئ تربوية وليس إلى طرق تعليم محددة يجب اتباعها بحرفيتها.  

كما شبه آخرون أفكار فريري بالتعليم الذي يركز على الطفل أو التربية التقدمية المبنية على أفكار جون ديوي. ورغم تشابه التوجهين في احترام معرفة واهتمامات واحتياجات المتعلّم وفي التركيز على أهمية نوعية الخبرة التربوية الضرورية للتعلم وأهمية الحوار، إلا أنه توجد اختلافات بين التوجهين، أهمها الجانب السياسي الاجتماعي. فقد اعتبر فريري التربية أداة للتغيير الاجتماعي في موطنه، البرازيل، بما فيها من فقر وحكم ديكتاتوري، بينما اعتبرها ديوي أداة لتأهيل المتعلمين للعيش في المجتمع الأمريكي المتطور اقتصاديا وذي المؤسسات الديمقراطية. وبينما كان اهتمام ديوي الأساسي هو الطلبة، فقد اهتم فريري بكل من المعلمين والطلبة، مركزا على ضرورة بناء علاقات أفقية بينهم بحيث يعلم كل منهم الآخر ويتعلم منه أثناء قيامهم بالاستقصاء النقدي.

وفي فلسطين، تبدو أفكار منير فاشه التربوية الأكثر قربا لأفكار فريري. فقد ركّز فاشه على التعلّم من الواقع من أجل تغيير الواقع. واعتبر المجاورة وسيطا للتعلّم، معرفا إياها ب "مجموعة من المُريدين والمُرادين يقرّرون بحرّيّة، وبدافع ذاتيّ، الالتقاء دوريًّا حول أمر أو ناحية في حياتهم، يسعون إلى العيش وفقها، أو تعلّمها وفهمها، أو القيام بعمل يتعلّق بها، على أن تتوفّر فيها حرّيّة على الصعيدين الشخصيّ والجمعيّ للتعلّم، انطلاقًا من الواقع الّذي يعيشه المتجاورون، بلا وجود سلطة داخل المجموعة أو من خارجها" (فاشه، 2016). وقد اعتبر فاشه التعليم الرسمي غير قادر على إحداث التربية التحررية التي ينشدها، فترك جامعة بيرزيت، حيث كان يعمل، وأسس مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، ثم انتقل للعمل والتعلّم المجتمعي بمفرده من خلال مشاريع مع مجموعات متنوعة من الشباب والشابات والبالغين في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وبعدها مع نساء فقيرات في الأردن.

ونجد التأثير الأكبر لأفكار فريري في فلسطين على الباحثين في مجال التربية. فقد شكلت هذه الأفكار بشكل صريح الإطار النظري لبعض رسائل الدكتوراه والمقالات والكتيبات (Al Rahl, 2018; Hamamra et al., 2020; Silwadi and Mayo, 2014; Ramahi, 2018, 2019; Pherali and Turner, 2018; عبد الله، 2016.).  وفي مجال الممارسة نجد تأثرا ضئيلا بهذه الأفكار. ففي دراسة حول التعليم في فلسطين (الرمحي، 2015) تم من خلالها مقابلة 14 مشاركاً "تقدمياً" (حسب رأي الباحثة) يعملون في الجامعات الفلسطينية ومؤسسات تربوية أخرى، إضافة لبعض النشطاء السياسيين توصلت الباحثة إلى الاستنتاج الآتي:

يشير المعنى العام للمقابلات إلى وجود حالات استياء كبيرة جراء الأساليب المتبعة في التعليم والتعلم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كانت التوصيات من أجل تغيير النظام التعليمي بشكل عام تدور حول المستوى التقني لأنها ركزت على المهارات والتعليم الأكاديمي والاستعداد للمنافسة في السوق. ويبدو أن هنالك ميلاً للتسليم بصحة إعادة إنتاج الهياكل الرأسمالية بدلا من إخضاع هذه القيمة للنقد. ولا يرتقي ذلك إلى رؤية التعليم التحرري أو التربية النقدية…. وكان المدى الذي ينظر إليه (التعليم) على أنه وسيلة لتحويل الهياكل الاجتماعية والثقافية والسياسية القمعية والفوارق الاقتصادية ضئيلاً.

ووجدت عدّة مبادرات تربوية صنفها البعض (الرمحي، 2015) كمبادرات تعليم تحررية، وإن كان من غير الواضح أساس هذا التصنيف. ونجد أن الغالبية العظمى من المبادرات تقع خارج إطار التعليم الرسمي. ولعل أقرب هذه المبادرات إلى تطبيق مفهوم التربية التحررية هو ما تقوم به كل من مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في رام الله ومسرح عشتار، مسرح المضطهدين، حيث يوجد ربط صريح بين النشاطات في هذه المبادرات والتغيير الاجتماعي المأمول. تقوم مؤسسة تامر بعدة برامج ومبادرات تسهم في تطور المشاركين من جهة، وفي العمل على تغيير الواقع من جهة أخرى. من هذه البرامج برنامج "يراعات" الذي يدعم الأطفال واليافعين في الكتابة وينشر كتاباتهم، ومشروع "الحي الملون" في غزة الذي أدى إلى تجميل حي اللاتين في المدينة عبر عن إصرار أهالي الحي على تحويل بيئتهم التي تتميز بالكآبة إلى بيئة من التفاؤل من خلال طلاء الجدران والأزقة وأوعية النباتات بألوان زاهية. وقام بالعمل الأهالي بشكل جماعي تطوعي. وقد تكرر العمل في أماكن أخرى من غزّة مثل مخيم الشاطئ والقوافل في خزاعة. أما مسرح المضطهدين التابع لمسرح عشتار فكان نتيجة تأثير أفكار فريري بشكل أوضح. فهو يعتمد على الحركة الدولية التي بدأت في البرازيل في السبعينات من القرن الماضي والتي تهدف إلى تطوير الوعي الاجتماعي والسياسي من خلال المسرح. ويشارك في العروض في هذا المسرح الحضور الذين يساهمون بتفسيراتهم الخاصة ويجرون تغييرات على القصة المعروضة.

إضافة إلى هاتين المبادرتين وجدت بعض المبادرات التي تأثرت بفكر فريري بشكل صريح. ففي مركز العمل المجتمعي في جامعة القدس تم إنشاء نشاط مسرحي نقدي للنساء في العام 2011 هدف إلى تطوير وعي المشاركات وتيسير تحررهن (Silwadi and Mayo, 2014). وقامت مؤسسة القطان بمشروع مع طلبة المدارس في مدينة خان يونس هدف إلى مساعدة الطلبة على التغيير المجتمعي (المدهون، 2021). كما أثرت أفكار فاشه وفريري بشكل صريح وواضح على مشروع مع طلبة إحدى المدارس في مدينة القدس (خاسكيّة، 2021). ففي هذا المشروع الأخير عملت القائمة على المشروع على تعليم أسس الزراعة وإثارة التفكير النقدي والإبداعي لدى عشرة أطفال في القدس. والتقى الأطفال خلال عام 2019 يوماً واحداً في الأسبوع لمدة خمسة أشهر مع مديرة المشروع وبعض المتطوعين. واعتمدت اللقاءات على مبادئ التعلّم التحرري لفريري ومفهوم المجاورة لفاشه. فكان هنالك نشاطات زراعية، وتحضير للوجبات، وقراءات، وطرح أسئلة ومشاكل، وحوار. وتميزت النشاطات بإعطاء حرية للمتعلمين، وبحوار أفقي بين المعلمين والمتعلمين.

يلاحظ أن جميع المبادرات تقريبا للتربية التحررية في فلسطين تمت في مجال التعليم غير الرسمي، وإن كانت مؤخرا متأثرة بأفكار فريري إلا أنه يمكن ملاحظة أنماط من التعلّم التحرري بنكهته الفلسطينية الأصيلة منذ زمن طويل. فقد يكون العمل التطوعي في منطقة رام الله في السبعينات من القرن الماضي شكلا من أشكال التعلّم التحرري، فقد ساهم في تطوير وعي المشاركين بالعمل التطوعي بالواقع في القرى الفلسطينية وفي محاولة تحسين هذا الواقع. كما شكل التعلّم في الخفاء في ظل الانتفاضة الأولى عام 1987 شكلا آخرا من التعلّم التحرري كبديل للتعليم الرسمي في المدارس والجامعات. وفي كلتا الحالتين كان التعلّم التحرري جزءا من حركة اجتماعية سياسية كبيرة تسعى إلى مقاومة الاحتلال. وفي الوقت الحالي تشكل مقاومة الاستيلاء على الأراضي في بعض القرى وعلى الأملاك في بعض أحياء القدس إطارا للتربية التحررية للذين يشاركون في نشاطات المقاومة هذه. فما إمكانية استخدام مفهوم التربية التحررية في السياق التحرري الفلسطيني بشكل أفضل في الوقت الراهن؟

يلاحظ من دراسة وضع التربية التحررية في أماكن أخرى أنه في مرحلة ما قبل الثورات في بلاد متعددة نجحت التربية التحررية عندما كانت جزءا من حركة اجتماعية سياسية (Mayo, 1993). فقد تنجح التربية التحررية في تغيير الوعي، ولكن لا بد من ربطها بحركة اجتماعية سياسية لتغيير الواقع، كما حدث في نيكاراغوا. كما تحتاج التربية التحررية إلى حيز يحضنها في المجتمعات القمعية؛ في البرازيل كانت الكنيسة جزءا من المقاومة التي سمحت لهذا النوع من التربية بالوجود. وفي مرحلة ما بعد الثورة يبقى التوتر ما بين التحرر والتدجين قائما في كافة السياقات (Mayo, 1993). فقد يؤدي الحماس الزائد من قبل الحكومة الثورية إلى التلقين عن الوضع القائم غير العادل، مما يتناقض مع مبادئ التربية التحررية حول تطوير المتعلم بنفسه للوعي النقدي من خلال طرح المشاكل والحوار والتأمل والفعل. فما قبل الثورة أو ما بعدها توجد عوامل تعمل على التدجين بدلا من التحرر. فقد يكون المعلم، كما أشار فريري، من طبقة اجتماعية مختلفة عن الطلبة، مما قد يؤدي إلى التدجين. وأشار فريري إلى ضرورة أن يقوم المعلم ب "انتحار طبقي"، ولكن هذا ليس بالأمر اليسير، أي أن إيجاد وتأهيل المعلمين للقيام بالتربية التحررية أمر صعب. كما أن الطلبة أنفسهم، المتعودين على طرق التعليم التقليدية، قد يقاومون المشاركة في التعليم التحرري، فيضطر المعلّم إلى اللجوء إلى طرق تقليدية تؤدي إلى التدجين. وهنالك صعوبات في استخدام التربية التحررية في نظام التعليم الرسمي. فالبيروقراطية تؤدي إلى تمييع أفكار التربية التحررية من أجل أن تصبح مقبولة، مما يسهم في الإبقاء على الوضع القائم. كما أن الرأسمالية العالمية، وما يرافقها من تحديد معايير عالمية لنتاجات التعلّم وضرورة تهيئة قوى عاملة تقليدية والتمويل الخارجي للمشاريع التربوية، تضغط لاستخدام التربية التقليدية والحفاظ على الوضع القائم. وأخيرا، فإن التناقضات في المجتمع، كوجود قوى محافظة تقليدية والفساد والتبعية والبيروقراطية، تدفع باتجاه التربية التقليدية بدلا من التحررية. الدروس المستفادة من هذه التجارب تظهر الحاجة إلى مواقع تحتضن التربية التحررية في المجتمعات القمعية وغير العادلة، وإلى أن تكون التربية التحررية جزءا من حركة اجتماعية سياسية. كما يظهر أن الصراع في مجال التربية بين القوى المحافظة وقوى التغيير، بين التدجين والتحرر، يبقى قائما في كافة الظروف. ويتبع هذا أن ممارسة التربية التحررية أسهل خارج نظام التعليم الرسمي، مما يفسر أن الغالبية العظمى من مبادرات التربية التحررية في فلسطين حدثت من قبل مؤسسات وأشخاص يعملون خارج هذا النظام.

كان فريري قد خص نوعاً معيناً من المقهورين باهتمامه بسبب وجوده في البرازيل، وهم طبقة الفقراء الأميين الذين شكلوا غالبية الشعب البرازيلي. ولم يتطرق فريري إلى مجموعات أخرى من المقهورين بسبب العنصر أو النوع الاجتماعي أو غيره. ورغم تأثره بأفكار فانون إلا أنه لم يتطرق إلى المقهورين بسبب الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي. وبالتالي، لا يوجد، حسب علم الكاتب، خبرات في التعليم التحرري في سياق شبيه بالسياق الفلسطيني في الضفة والقطاع في ظل احتلال استعماري عنصري (لا مجال هنا لمناقشة التربية التحررية للفلسطينيين في إسرائيل أو في المخيمات في الدول العربية). ولكن مبادئ التربية التحررية تبقى ملائمة، وتترجم إلى طرق ملائمة تتناسب مع سياق التطبيق. كما أن الكثير من عوامل التدجين التي تم تحديدها فيما سبق تبقى موجودة في سياقنا الفلسطيني. فالعوامل الخارجية، كالنظام الرأسمالي العالمي واختزال التربية إلى عملية تقنية لتخريج طلبة بمواصفات محددة والتمويل الخارجي والرقابة على المناهج المدرسية، والعوامل الداخلية، كالانتماءات الضيقة والفصائلية والقوى المحافظة والفساد والبيروقراطية، جميعها تدفع بتربية من أجل التدجين. ولكن حتى في ظل هذه الظروف وجدنا مبادرات صغيره هنا وهناك وجدت حيزا خارج النظام الرسمي يمكّنها من ممارسة تربية تحررية.

ولكن، أخيرا، يجب الحذر من التصنيف الثنائي لأنواع التربية، فالتربية، حسب هذا التفكير، إما تقليدية أو تحررية. يوجد اتصال وتسلسل بين هذين النقيضين، فقد تميل التربية إلى إحداهما بدرجة ما. فبالإمكان، على سبيل المثال، تصور تربية غالبا تقليدية، حيث العلاقة بين المعلم والطلبة هرمية بشكل عام، وحيث يقوم المعلم عادة بشرح وتفسير معلومات معينة، ولكن في نفس الوقت، يوجد احترام للطلبة ولمعارفهم وخبراتهم واهتماماتهم، وتطرح أسئلة هامة ومثيرة للتفكير يتبعها نقاش ومجادلة بين الطلبة وبينهم وبين المعلم. وتطوير التفكير الناقد، أي تطوير المتعلّم المتحرر فكريا، كما رأينا سابقا، هدف لكثير من التربويين الذين لا يمكن اعتبارهم من منظري التربية التحررية. هذه تربية جزئيا تحررية، على مستوى الفكر، ولكنها لا تصل إلى نموذج فريري حيث تترجم هذه الحرية إلى فعل جماعي يهدف إلى تغيير الواقع مع ما يرافقه من استقصاء تأملي.

وهذا يقود إلى بعض محدوديات مفهوم التربية التحررية كما طرحه فريري. فهو يعطي أهمية كبرى، عن حق وبخلاف مع غيره، للحوار الأفقي بين المعلم والطلبة بحيث يصبح كل منهم معلما ومتعلما. ولكن هذا يقلل، من جانب، الدور القيادي الضروري للمعلم، فهو الذي يستطيع إعادة التركيز في النقاش على النقاط الهامة، وعلى طرح الأسئلة التي تتحدى تفكير الطلبة السابق وتساعدهم على اكتشاف محدودية "وعيهم الزائف" وضرورة استبداله. كما أن تشديده على عدم قيام المعلم بتزويد المتعلّم بمعلومات مبالغ فيه، فللمعلم دور هام في مساعدة الطلبة في فهم أو استيعاب مفهوم ما، وتقديم الأمثلة والتشبيهات التي تساعد على الفهم. ومن جانب آخر، فإن تركيز فريري هو على دور التربية التحررية في تغيير وعى المتعلم، ولكنه يهمل دورها في تغيير وعي المعلم. 

آخذين هذه الجوانب في الاعتبار، نجد أن التربية التحررية ضرورية في السياق الفلسطيني، وتشكل جزءا من أدوات النضال من أجل التحرر، ولكن تأثرها سيكون محدودا إن لم تقترن بحركة سياسية اجتماعية تقاوم الاحتلال. وقد تشكل التربية غير الرسمية التي توفرها بعض مؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى حركات مقاومة الاستيطان، السياق الأكثر ملاءمة لهذه التربية. ولكن استخدام وتطوير أشكال مختلفة من التربية التحررية في نظام التربية الرسمية يبقى مهمة ضرورية للمعلمين والمعلمات التقدميين، فالمدارس، كما ذكرنا سابقا، تبقى حلبة صراع بين القوى المحافظة وقوى التحرر.

المصادر

الرمحي، حنان. التعليم في فلسطين: التحديات الراهنة والبدائل التحررية. رام الله: مؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2015. ص 15.

المدهون، عبير. شراكات مجتمعية نحو تعلّم تحرري. أنزلت من الموقع الآتي بتاريخ 13/8/2021: http://qattanfoundation.org/ar/RT-61-SDC11

خاسكيّة، لنا. "جوار في الطبيعة"... تربية من أجل التحرر في دير راهبات الوردية.أنزلت من الموقع الآتي بتاريخ 13/8/2021: http://bitly.ws/g8Jv

عبد الله، غسان. أي تعليم نريد؟ حوار التعليم التحرّري في  فلسطين. رام الله: مؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2016.

فاشه، منير. حكايتي مع الرياضيّات. رام لله: مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، 2016 . ص 41.

فريري، باولو، مازن الحسيني مترجم. نظرات في تربية المعذبين في الأرض.  (رام الله: دار التنوير، 2003)

Al Rahl, Ahmad. "A Critical Analysis of Education in Palestine: Exploring the Challenges of Politicisation." PhD diss., The British University in Dubai, 2018.

Hamamra, Bilal, Nabil Alawi, and Abdel Karim Daragmeh. "Covid-19 and the Decolonisation of Education in Palestinian Universities." Educational Philosophy and Theory (2020): 1-15.

Mayo, Peter. "When Does It Work? Freire's Pedagogy in Context." Studies in the Education of Adults 25, no. 1 (1993): 11-30.

Pherali, Tejendra, and Ellen Turner. "Meanings of Education under Occupation: the Shifting Motivations for Education in Palestinian Refugee Camps in the West Bank." British Journal of Sociology of Education 39, no. 4 (2018): 567-589.

Ramahi, Hanan. "Supporting Teacher Leadership in Palestine: An Emancipatory Approach." International Journal of Teacher Leadership 10, no. 1 (2019): 27-40.

Ramahi, Hanan. "Teachers Leading School Improvement and Education Reconstruction in Palestine." PhD diss., University of Cambridge, 2018.

Siegel, Harvey. Education's epistemology: Rationality, Diversity, and Critical Thinking. Oxford University Press, 2017.

Silwadi, Najwa, and Peter Mayo. "Pedagogy under Siege in Palestine: Insights from Paulo Freire." Holy Land Studies 13, no. 1 (2014): 71-87.