لم يرتبط المعنى اللغوي والاصطلاحي لصفة "السيد" بنشوء الدولة-القومية (nation-state)، وإنما سبقها بعقود. فمنذ القرن الثالث عشر استخدم تعبير "السيادة" في أوروبا ليشير إلى صفة أو مكانة الفرد المتفوق أو صاحب المكانة العلوية، أو الحاكم، أو السيد (master). وهي كلمة في أصولها الفرنسية (soverain) تتضمن إلى جانب ما ذكر صفة "اللورد" أو المدير. وفي اللاتينية والإيطالية تعني الرئيس أو المكانة العليا (over)
يعود أصل المفهوم في الفكر السياسي للمفكر الفرنسي "جان بودان" الذي ساند في القرن السادس عشر سلطة الملك في مواجهة ثورة ملاك الأرض الإقطاعيين في فرنسا
جاءت صياغة مفهوم السيادة كمبدأ أساس في علاقات الدول الأوروبية - ومعها النظام الدولي المعاصر- كتطور فكري ساهم بصورة عميقة في بلورة معاهدة ويستفاليا 1648. وقد وجد هذا المبدأ في كتابات "جان بودان" الذي قدم المفهوم بمستويين: الأول يتصل بالكيانية السيادية، والثاني بصاحب السيادة. بالمستوى الأول عرَّف السيادة على أنها "القوة المطلقة والدائمة الكامنة في الاتحاد [commonwealth]"؛ أما في المستوى الثاني فقد قدمها باعتبارها "العلامة المميِزة لصاحب السيادة في أنه لا يخضع بأي شكل لأوامر الآخرين، كونه هو بالذات الذي يسن القوانين التي يخضع لها الآخرون، وبوسعه تغييرها وتعديلها أو إبطالها".
وبالرغم من هذه الصفة المطلقة للسيادة فإنها ليست غير محدودة. فالسيد يحده القانون السماوي والقانون الطبيعي، وكذلك نمط النظام السياسي؛ أي البناء الدستوري سواء أكان هذا النظام ملكياً أم أرستقراطياً أم ديمقراطياً. بالإضافة إلى هذه القيود على السيادة فإن صاحب السيادة مقيد بالعهود والمواثيق (الاتفاقيات والمعاهدات) سواء أكانت متعلقة بالشعب الذي يعيش في الاتحاد، أم بالمعاهدات مع الدول الأخرى، بالرغم من غياب جهة محكمة في العلاقات بين الدول.
بالمعنى التاريخي فإن هذا التطور الفكري والسياسي يعتبر تقدميا من ناحية القضاء على الإقطاع لصالح القومية، إلا أن استخداماته اللاحقة في سياق صراعات القوة في أوروبا ستبين أن مسألة السيادة قد تحتمل أبعادا رجعية بقدر ما يمكن أن تحمله من مضمون تقدمي. فقد تم منح العديد من الدول الصغيرة في وسط أوروبا حق السيادة عقب تفكك الإمبراطورية الرومانية، وتم استبدال حكم الكنيسة فوق-القومي بحكم الملوك (monarchs)، وأصبح هؤلاء الملوك هم من يقرر أي توجه ديني مسيحي سيختارون في إطار قومي وليس فوق-قومي ارتبط ببزوغ الدولة-الإقليمية (territorial state). وفي هذا الإطار تم الاعتراف بحق كل دولة في تحديد سياساتها الداخلية دون تدخل خارجي بصفتها صاحبة الولاية القانونية في حيزها المكاني المعترف به: وهذا هو مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول ذات السيادة والذي لا يزال من المبادئ الأساسية في النظام الدولي المعاصر.
السيادة بين السياسة والقانون
لقد فتح مبدأ السيادة والسلامة الإقليمية للدول، وعلى خلفية فظاعات حرب الثلاثين عاما التي سبقت معاهدة ويستفاليا، فتح الباب أمام ما يمكن وصفه بسباق تسلح وبناء للجيوش أفضيا إلى تطورين هامين: الأول تعاظم قوة ونفوذ الدولة المركزية، والثاني إطلاق سلسلة من الأحلاف والأحلاف المضادة التي قادت إلى ما يعرف باسم حروب نابليون على خلفية تشكل دول مترامية الأطراف وصاحبة قوة عسكرية هائلة، الأمر الذي يمكن اعتباره المقدمة الأولى للأخذ بمبدأ توازن القوى في "كونغرس فيينا" 1815 بين قوى هيمنت على القارة الأوروبية حتى بدايات القرن التاسع عشر وهي: النمسا، روسيا القيصرية، بروسيا، بريطانيا، وفرنسا.
وفي هذا السياق التاريخي تم الاستناد إلى "السيادة" في الترتيبات القارية الأوروبية التي أعقبت حروب نابليون وما نتج عنها من إعادة تعريف للتخوم الجيوسياسية الأوروبية في "كونغرس فيينا" في العام 1815. ففي مسعاها لاحتواء صعود أفكار الثورة الفرنسية عملت القوى المنتصرة في هذه الحروب على إعادة تنصيب النظم الملكية والإمبراطورية الأوروبية بهدف الحد من انتشار أفكار الثورة الفرنسية. ويمكن النظر إلى معالجة "توماس هوبس" لمفهوم ومعنى السيادة على أنه انحياز للحكم المطلق حيث قال أنه في أي دولة "حقيقية" فإن شخصاً معيناً أو جسماً (مجموعة) من الأشخاص يجب أن يمتلك سطلة مطلقة ليعلي من شأن القانون، وإن توزيع هذه السلطة التي يمتلكها سوف يدمر وحدة الدولة
سيادة الدول
لم تحتل مسألة السيادة وحق تقرير المصير مكانة الصدارة في السياسة الدولية مثلما احتلتها بعد الحرب العالمية الأولى. ويمكن اعتبار تاريخ تطور مفهوم السيادة بعد الحرب العالمية الثانية بمثابة تأريخ للعلاقة بينه وبين حق تقرير المصير للشعوب (المجموعات القومية والإثنية) التي تشكلت بفعل نتائج الحرب وتفكك الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى. وقد كان من أهم نتائج هذه العملية تحول الدولة-الأمة (nation-state) إلى العنصر المركزي عند التفكير في السياسة الدولية وعلاقات الدول. ويمكن القول إن تاريخ العلاقات والسياسة الدوليين هما تاريخ ارتقاء الدول بمفهومها الويستفالي الذي تطور بالتلازم مع مفهوم وظاهرة السيادة من الزاويتين العملية (الواقعية)، وتلك النظرية. فسواء أكان في موروث الفكر السياسي الليبرالي، أم الواقعي أم الماركسي، تحتل الدولة مكانة مركزية في تحليل وفهم ظواهر السياسة الدولية ونشوء وتفكك النظم الدولية على اختلاف بناها.
ومن الناحية القانونية فإن الدولة صاحبة السيادة ينبغي لها أن تحقق أربعة شروط حسب معاهدة مونتيفيديو لسنة 1933: أولا يجب أن تمتلك الدولة أساساً (قاعدة مكانية) (territorial) لها حدود جغرافية معرَّفة؛ ثانيا وجود شعب مستقر على هذه البقعة الإقليمية-الجغرافية؛ ثالثا هذا الشعب يجب أن يظهر الولاء لحكومته؛ ورابعا ينبغي أن تتمتع الدولة بالاعتراف الدبلوماسي من الدول الأخرى
تبقى معضلة الاعتراف الدولي الأكثر تعقيدا من الناحيتين القانونية والسياسية، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن يدور حول الحد الأدنى من الدول التي يجب أن تعترف بدولة سيادية لكي تستوفي هذا الشرط القانوني؟ وهنا تدخل الاعتبارات السياسية والتوازنات الدولية والإقليمية كمتغير محوري في هذه الاعترافات. على سبيل المثال فإن "بانتوستان"/دولة إقليم "ترانسكي" الذي ابتدعته حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لم يحظ بأي اعتراف دولي سوى من دولة جنوب إفريقيا. وبالمقابل هناك دول حول العالم لا تزال محل تنازع سياسي وقانوني مثل دولة كوسوفو التي أعلنت استقلالها عن صربيا في العام 2008، والتي حظيت مع نهاية العام 2016 باعتراف 100 دولة. لم تشمل هذه الدول لاعبين مركزيين في وسط وشرق أوروبا هما جمهورية صربيا، وروسيا، إلى جانب خمس من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حيث تواجه هذه الدول جماعات إثنية-قومية تسعى للانفصال، ويمكن للاعتراف باستقلال كوسوفو أن يعطي هذه الجماعات مصدرا لتصليب مواقفها في مواجهة الدولة المركزية.
تنقلنا هذه المعضلة السياسية القانونية إلى سؤال حول الجماعات التي يجب أن تتمتع بالحق في إقامة دولها المستقة وسيادتها؛ ما هي الجماعات صاحبة الحق في أن توصف كشعب، وبالتالي أن تتمتع بحق تقرير المصير؟ وأبعد من تقرير المصير بأن يتم ذلك في إطار دولة سيادية وليس في أي من الأطر الأخرى التي تشكل تطبيقا لحق تقرير المصير: تقرير المصير على أساس فردي في دولة ديمقراطية تقوم على المساواة؛ أو في إطار اتحاد فدرالي، أو في دولة سيادية مستقلة.
يتضح مما سبق أن نشوء الدولة-الأمة وتلازمها مع السيادة كان ترجمة فكرية وسياسية لمرحلة تاريخية لها محدداتها. ولعل من أبرز هذه المحددات كان تنامي المشاعر القومية. إذ يمكن اعتبار أن الخصائص المشتركة التي تقوم على أساسها الشعوب هي أحد أهم مبررات ومحركات بناء الدولة-الأمة. لقد كان الإيمان بأن الشعوب يجب أن تقيم دولها هو الذي قاد بالأساس إلى تشكيل الإيطاليين، والألمان، والفرنسيين دولهم في القرن التاسع عشر، ومن هنا نشأ الترابط الوثيق بين هذه الدولة وبين حق المجموعات المسماة شعوبا في تقرير مصيرها القومي. ومن هنا نشأ الترابط الوثيق بين هذه الدولة وبين حق المجموعات المسماة شعوبا في تقرير مصيرها القومي. إلا أن الأمر لم يكن بهذه السلاسة، فثمة شعوب منتشرة بين عدة دول-قومية مثل الأكراد، وهنالك دول تعيش فيها العديد من القوميات أو الجماعات الإثنية مثل الهند وروسيا. تشير هذه الظاهرة إلى أن نشوء الدولة-الأمة، أي النسيج السياسي-المؤسسي للسيادة، لم يكن دوما متطابقا مع النسيج الاجتماعي-الثقافي للأمة. ومما يزيد الظاهرة تعقيدا وجود شعوب أصلية في دول كانت من صنيع عمليات استعمارية استيطانية كبرى مثل السكان الأصليين في القارة الأمريكية الشمالية، وفي أستراليا.
السيادة في الظرف الفلسطيني
لا يوجد في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين حضور مركزي للسيادة لا بمعناها المجرد ولا كهدف سياسي جمعي. وعلى الأقل حتى العام 1974 (إعلان البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية) لم تشمل مكونات الهوية الجمعية للشعب الفلسطيني، أو مرتكزات الوطنية الفلسطينية، تلك التعبيرات التي تشير إلى مسألة السيادة. ربما يعود ذلك لأسباب تدور حول مسألتين: الأولى أن ميلاد الوطنية الفلسطينية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ارتبط ارتباطا وثيقا -على المستويين الفكري-السياسي والعملي بالقومية العربية المشرقية التي سعت إلى إنشاء "دولة عربية" معرفة تعريفا جيوسياسا لا ينقصه الغموض. وكذلك أنها ارتبطت بعمليات التحول الاقتصادي-الاجتماعي التي أتت بفعل التغلغل الأوروبي في فلسطين في القرن التاسع عشر وما صاحبها من عمليات تحديث
وبالرغم من أن الثورة الفلسطينية ضد ما يعرف بالحكم المصري (1834) لم تحمل معها شعارات أو برنامجاً سياسياً يقوم على مطلب السيادة -حيث كان مصدرها الأساسي هو الضرائب التي فرضت على السكان والتجنيد الإجباري- إلا أنها شكلت البداية الجنينية لما يمكن وصفه بالوطنية الفلسطينية. لقد وجدت هذه الوطنية تعبيراتها السياسية الصريحة في ردة الفعل على انكشاف أمر وعد بلفور. ففي العام 1918، مثلما يشير رشيد خالدي في كتابه حرب المائة عام على فلسطين
لقد أسهمت الحرب العالمية الأولى بشكل كبير في شحذ الوطنية الفلسطينية الناشئة، حيث برزت مظاهر الانتماء إلى وطنية عصرية أكثر من الانتماء المحلي أو العائلي متأثرة بالنزعة العالمية للتحول نحو القوميات وممارسة حق تقرير المصير الوطني. إلا أن مؤتمر السلم لم يعر اهتماما لأي من المطالب التي تتعلق باستقلال شعوب العالم الثالث وتحررها من الاستعمار، الأمر الذي قاد إلى ثورات عارمة ضد الاستعمار وللمطالبة بالاستقلال الوطني. وبالنسبة للفلسطينيين فإنه كان عليهم تطوير وبلورة وعيهم القومي في ظل تحديين ناجمين عن الهجرة الصهيونية من جهة والاستعمار البريطاني من الجهة الثانية، وفي إطار المشروع العربي لإقامة دولة عربية مشرقية. لكن وبالرغم من هذا التوجه القومي المشرقي إلا أن شواهد ولادة الوطنية الفلسطينية كانت حاضرة بشكل لافت وبخاصة في الصحف التي كانت تصدر في فلسطين في هذه الحقبة مثل صحيفتي "فلسطين" و"الكرمل".
لم يترافق صعود الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة مع مطالب سياسية محددة بالاستقلال والسيادة الوطنيين، بل كانت هذه المطالبات تتم باسم الدولة العربية التي طالب بها الشريف حسين بن علي قبيل وإبان الثورة العربية ضد العثمانيين. ويشير جورج أنطونيوس في كتابه اليقظة العربية
فقد كانت تصورات العرب حول الدولة العربية العتيدة متطابقة تماما من الناحية الجغرافية مع تلك الأقاليم التي هزمت فيها الدولة العثمانية، ومتوافقة تماما مع مطالب الشريف حسين بن علي. وقد اصطدمت هذه التصورات مع الأطماع الإمبريالية لكل من فرنسا وبريطانيا، ومع المشروع الصهيوني في ذات الوقت، الأمر الذي قاد في نهاية المطاف إلى فصل المسألة الفلسطينية عن بقية المشروع العربي للاستقلال. ويلاحظ أنطونيوس بأن المطالب العربية التي قدمها الأمير فيصل بن الحسين أمام مؤتمر السلم والمتعلقة بالاستقلال العربي أكدت على النزعة السائدة في المشرق العربي بما فيه سوريا نحو الاستقلال والوحدة. ظهر ذلك جليا في مبادرة عدد كبير من القيادات السياسية العربية من كل أنحاء سوريا لتشكيل جمعية عربية. ولعب حزب الاستقلال العربي دورا مركزيا في هذه المبادرة التي شكلت ما عرف باسم "الكونغرس العربي العام" والذي تمثلت فيه فلسطين بوفد إلى جانب سوريا. وتمخض هذا المؤتمر عن مجموعة مطالب قدمت تعريفا للأهداف الوطنية لكل من سوريا وفلسطين والعراق. وقد كان القرار الأول الصادر عن الكونغرس ينص صراحة على مطلب استقلال سوريا بما فيها فلسطين كدولة ذات سيادة.
لم تلبث هذه المطالب أن انهارت أمام الحكم العسكري الفرنسي والبريطاني لسوريا والعراق. وبتبني عصبة الأمم لمشروع الانتداب البريطاني على فلسطين، وسياساتها لتنفيذ وعد بلفور لم تعد مطالب السيادة والاستقلال في دولة عربية واحدة هي العنوان للوطنية الفلسطينية، بل بدأت هذه الوطنية تتمحور حول المطالبة بالاستقلال في ظل حكومة نيابية مثلما ورد في مطالب اللجنة التنفيذية للمؤتمر القومي الفلسطيني في العام 1922. وأخذت الوطنية الفلسطينية تتطور في مواجهة سلطة الانتداب البريطاني والتغلغل المتسارع للصهيونية، مراكمة إرثا من العمل الكفاحي والهبات المتتالية طوال ما يقارب عقدين من الزمان وصولا إلى الثورة الفلسطينية الكبرى التي أكدت من جديد على مطالب وقف الهجرة الصهيونية وإقامة حكم نيابي.
إلا أن تلك الفعالية "الثورية" التي عبرت عن رفض الفلسطينيين للاستعمار (الانتداب) البريطاني، والهجرة الصهيونية وبخاصة في سنوات 1929-1939 لم يصاحبها برنامج أو رؤية سياسية تستبطن أو تتبنى مطالب السيادة والاستقلال. وهذا له جذوره في عدم اكتمال نضوج حركة وطنية تحررية ذات طابع قطري يمكنها بالضرورة أن تتبنى فكرة إنشاء دولة سيادية. سينتظر هذا التطور قرابة ثلاثة عقود من الزمن لكي تتبلور حركة وطنية فلسطينية ذات طابع قطري (وطني، وإلى حد ما علماني) تستلهم فكرة الاستقلال والسيادة. ورغم أن تعبيرات "السيادة" أو "دولة ذات سيادة" لم ترد في نصوص البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن هذا البرنامج سيواجه واقعا موضوعيا سيكون من الصعب في سياقه ترجمة حق تقرير المصير للفلسطينيين (أقصد كل الفلسطينيين بصرف النظر عن مكان تواجدهم) إلى خطوات ملموسة أو ممكنة التحقق في إطار دولة وطنية/قطرية ذات سيادة. فالدولة ذات السيادة، ولو تحققت على الأراضي المحتلة بعدوان العام 1967، لن تشكل حلا لمسألة تقرير المصير للفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم، وبخاصة في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948 والتي تواجه "قانون القومية" "الإسرائيلي".
السعي إلى الاستقلال
بنت منظمة التحرير الفلسطينية استراتيجيتها الوطنية بعد العام 1974 مستندة إلى حد كبير على معيار حق الشعوب في تقرير المصير. وقد جاء البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية (برنامج النقاط العشر) في العام 1974 بذلك التلازم الصريح بين حق العودة، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني. ولم يرد في بنود البرنامج أي ذكر لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، بل استعاض عنها بتبني هدف "مرحلي" هو إنشاء "سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأراضي الفلسطينية التي يتم تحريرها."
وفي هذا السياق تبدو مسألة تقرير المصير للفلسطينيين إذا ما تم ربطها، ناهيك عن اختزالها، بالسيادة أكثر تعقيدا في الوقت الذي لجأت فيه حركتهم الوطنية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى برنامج سياسي يرتكز بالذات على حق تقرير المصير، وفي مرحلة لاحقة على الحق بدولة مستقلة وسيادة بدون التركيز على حق تقرير المصير؛ والمقصود هنا هو وضع مسألة السيادة والدولة المستقلة في صدارة الخطاب السياسي والحقوقي الفلسطيني وتهميش خطاب الحق في تقرير المصير في العقدين المنصرمين على وجه التحديد. وهو الأمر الذي سيواجه ليس فحسب التعديل الوارد أعلاه في إعلان الأمم المتحدة للعام 1970، بل سيواجه المقاربات الأكثر معاصرة للمفهوم كما نناقش لاحقا
وإذا ما أردنا أن نفحص الحالة الفلسطينية باعتبارها سعياً دائماً طوال العقدين الماضيين على الأقل لتحصيل إقامة الدولة والسيادة، فإن المعايير القانونية البحتة تشير إلى وجود حالة يجوز معها منح الفلسطينيين في المناطق المحتلة منذ العام 1967 وضعية الدولة. فبالعودة إلى معايير معاهدة مونتيفيديو للعام 1933: فالأبعاد المكانية والجغرافية للدولة والسيادة معرفة على الأقل من زاوية التوافق الدولي على اعتبار حدود العام 1967 هي أساس هذه الأبعاد. كما يشكل الفلسطينيون شعبا أصليا يعترف له بهذه الصفة على مستوى القانون الدولي والقرارات الدولية، إلى جانب توفر سلطة سياسية (بصرف النظر عن معطياتها الإشكالية). وفوق ذلك فقد تم الاعتراف بهذه الدولة كعضو مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2015.
بالمقابل فإن الاعتبارات السياسية ذات الصلة بتوازنات القوى وحسابات الأطراف ذات العلاقة تحول حتى الآن دون تحقق هذه الدولة وممارستها لسيادتها على إقليمها. ولعل التقاء القانوني بالسياسي هو لب المسألة في عدم ترجمة مشروع "حل الدولتين" إلى حقيقة واقعة. فمن أجل الاعتراف الكامل بدولة فلسطينية في الأمم المتحدة فإنه لا يكفي اعتراف الجمعية العامة، والأمر يتطلب اعتراف مجلس الأمن الدولي بهذه الدولة. وفي هذا الأخير فإن ممارسة الولايات المتحدة لحق النقض، والرفض الإسرائيلي للاعتراف بهذه الدولة يحولان دون اكتساب هذا الاعتراف. وتسعى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى التوصل لصيغ تفاوضية حول المسائل الأساسية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي التي يحول عدم التوصل إلى اتفاقات بشأنها دون إنهاء الصراع ودون ممارسة الفلسطينيين لحقهم في تقرير المصير أو السيادة والدولة. فما هي إذن مبرات وأسانيد تمسك القيادة السياسية الفلسطينية بهدف الدولة والسيادة، وكيف جرى فصله عن حق تقرير المصير؟
السيادة وتقرير المصير
في عالم يعترف بالتساوي بين الدول من خلال السيادة فإن الفلسطينيين قد اندفعوا لينشدوا السيادة من خلال برنامج "الاستقلال" عوضا عن برنامج التحرر الوطني الذي يتخطى مجرد "الاستقلال" والسيادة. من أحد أهم جوانبه، يعبر هذا البرنامج عن الطموحات القطرية للقوى المركزية لحركة تحرر ولدت في أوج الحرب الباردة وسعت في أكثر من مناسبة لإنشاء كيانية شبه دولانية في كل من الأردن ولبنان.
إلا أن برنامج "الاستقلال" - ورغم تضمينه لحق تقرير المصير- قد انزلق بشكل متسارع نحو امتلاك "سلطة" بدون أي من الحقين: لا السيادة ولا تقرير المصير. وفي جوهر المسألة فإن هذا البرنامج يعكس عدم قدرة الفلسطينيين على تقديم إجابات فعالة لواقع الشرذمة والتشتيت الذي ألحقه بهم المشروع الصهيوني. هذا المنحى هو بالتحديد ما حول الخطاب السياسي الفلسطيني تماما نحو المطالبة بدولة ذات سيادة في ظل تبني القوى الدولية ذات التأثير لما يعرف ببرنامج حل الدولتين، وبخاصة في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ويأتي هذا المنحى في سياق تحول دولي جديد في النظر إلى حق تقرير المصير والسيادة.
يمكن اعتبار تمسك القيادة السياسية الفلسطينية بحل الدولتين والتركيز على خطاب السيادة يحمل في ثناياه استبعاد البرنامج الأصيل لمنظمة التحرير القائم على الحل الديمقراطي المسمى في لغة اليوم "حل الدولة الواحدة". فبمجرد اعتراف المنظمة بحق "إسرائيل" في الوجود والكف عن تحدي شرعية وجودها صار يعني الجري وراء مشروع "سيادة" في إطار دولة، في حين أن الوقائع كلها على الأرض تشير إلى وجود دولة واحدة فعليا هي "إسرائيل" ولكن بمنظومة حقوق ازدواجية لمجموعتين متمايزتين. إن الواقع الذي حال دون تحقق برنامج الدولة الديمقراطية (برنامج التحرر الوطني) الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية، المشار إليه سابقا، أصبح أكثر تعقيدا بحيث يحول اليوم دون تحقق برنامج "الاستقلال"، وهو ما يجعل تبني مطلب السيادة وبمعزل عن تقرير المصير مجرد هروب للأمام.
أصبح تعبير السيادة لصيقا بالخطاب السياسي الفلسطيني، بل إنه يشكل أحد محاوره المرتبطة حكما بتبني هدف الاستقلال في دولة "ذات سيادة". أو وفق التعبيرات المستحدثة في الخطاب الدولي لمرحلة أوسلو: دولة قابلة للحياة viable وبما يشي بتبني مفهوم غير مألوف للسيادة يفصل بين أصلها الأوروبي (هذا يشمل تاريخيا امتدادت أوروبا في العالم الجديد)، وتعبيراتها خارج النطاق الأوروبي. ويأتي ذلك أيضا في سياق التأويلات المعاصرة لمفهوم السيادة مثلما أشرنا سالفا.
ومن المفارقات اللافتة للنظر أن الدفع بخطاب السيادة إلى صدارة اللغة السياسية التي تتبناها السلطة الفلسطينية، وإلى حد كبير منظمة التحرير الفلسطينية، يخالف الأساس القانوني لعلاقة الدولة بالسيادة. فالادعاء الأساس الذي يساند هذا الخطاب هو اعتبار أن فلسطين (والمقصود المناطق المحتلة بعدوان 1967) دولة تحت الاحتلال بعد منحها مكانة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2011.
وكما أشرنا سالفا فإنه وبالرغم من الانطباق الشكلي لشروط قيام الدول على الحالة الفلسطينية، تبقى هذه المقومات بحكم الاحتلال العسكري والاستعمار الاستيطاني غير مكتملة بأحسن الأحوال؛ أي أن وجود الاحتلال العسكري الفعال والاستعمار الاستيطاني يحولان دون ممارسة هذه الدولة لسيادتها. وسواء تحدثنا عن الدولة أم السيادة أم تقرير المصير فإن أحد أهم التعريفات القانونية للسيادة، الذي يرى بأن وجود سلطة "أجنبية" (أيا كان شكلها) تحد من أو تكون أعلى من سلطة الدولة، أو تفرض تبعية من أي نوع عليها، هو من مبطلات السيادة والدولة معا. إن الدولة بهذا المعنى يجب أن تكون قادرة على "الدفاع عن الأرض والوطن والشعب ضد أي اعتداء خارجي يهدد أراضي الدولة، أو مياهها وأجواءها الإقليمية، أو استقلالها، أو ثرواتها الوطنية أو يستهدف شعبها وحريته واستقلاله."
بإقرارها قانون القومية فإن "إسرائيل" قد حرمت الفلسطينيين كأفراد وكمجموعة قومية الحق في تقرير مصيرهم، من خلال تقديم تعريف حصري وإقصائي للدولة يحرم الفلسطينيين من المساواة بالحق في العيش على أرض فلسطين؛ أي من حقهم في تقرير مصيرهم كجماعة قومية (ليس فحسب الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967). لقد عزز هذا القانون حالة الثنائية القانونية لوضع الفلسطينيين الذين يعيشون على أرض فلسطين: الجزء الأول منهم بلا دولة Stateless وبلا حقوق في مناطق 1967، والجزء الثاني في دولة ومع حقوق غير كاملة. لكن من ناحية ثانية فإن القانون وحد حال الفلسطينيين من حيث حرمانهم من الحق في تقرير المصير سواء أكانوا هنا أو هناك. وفي ظل هذه المعادلة يصبح التركيز على مسألة السيادة مفارقا للواقع.
بمنطق الأمر الواقع فإن تحكم "إسرائيل" وسيطرتها على كل الأرض الفلسطينية بما في ذلك تلك البقعة الجغرافية التي من المفترض أن تشكل الحدود الجيو-سياسية والجغرافية لحق الفلسطينيين في تقرير المصير عبر دولة سيادية كما تطالب القيادة السياسية الفلسطينية، يعني بأن كلا الحقين (السيادة وتقرير المصير) لا يمكن تصور تحققهما. فعليا سيبقى الفلسطينيون بلا حقوق في ظل دولة تحكمهم فعليا بدون أن تفرض سيادتها عليهم بالمعنى القانوني المباشر (والمقصود إسرائيل بطبيعة الحال). هذا ناهيك عن انتهاك هذا الواقع للحقوق الفردية والجماعية للاجئين الفلسطينيين، ولحق الفلسطينيين الذين يعيشون في دولة "إسرائيل" بالمساواة.
[1]قرار 2649 المؤرخ 30 تشرين الثاني 1970، 2955 (السابع والعشرون) المؤرخ 12 كانون الأول 1972، 3070 (الثامن والعشرون) المؤرخ 30 نوفمبر 1973، 3246 (التاسعة والعشرين) المؤرخ 29 تشرين الثاني 1974، 3382 (XXX) المؤرخ 10 تشرين الثاني 1975، 33 / 24 المؤرخ 29 تشرين الثاني 1978 و 34/44 المؤرخ 23 نوفمبر 1979، 35/35 المؤرخ 14 تشرين الثاني 1980 و 36/9 من 28 أكتوبر 1981، وكذلك قرارات مجلس الأمن 418 (1977) في 4 تشرين الثاني 1977 و 437 (1978) المؤرخ 10 أكتوبر 1978. وقرارت: 2465 (الثالث والعشرون) المؤرخ 20 كانون الأول 1968، 2548 (الرابع والعشرون) المؤرخ 11 كانون الأول 1969، 2708 (XXV) المؤرخ 14 كانون الأول 1970، 3103 (الثامن والعشرون) المؤرخ 12 كانون الأول 1973 و3314 الصادر في 14 ديسمبر 1974 في شأن استخدام وتجنيد المرتزقة ضد حركات التحرر الوطني والدول ذات السيادة، وكذلك قرارات مجلس الأمن 496 (1981) المؤرخ 15 كانون الأول 1981 و 507 (1982) في 28 أيار 1982. وكذكلك القرارات ذات الصلة بشأن قضية فلسطين، ولا سيما القرارات 3236 (التاسعة والعشرين) و 3237 (التاسعة والعشرين) في 22 تشرين الثاني 1974، 36/120 المؤرخ 10 كانون الأول 1981 و ES-7/6 من 19 أغسطس 1982. وقراراتها بشأن مسألة ناميبيا، ولا سيما القرار ES-8/2 المؤرخ 14 سبتمبر 1981.
المصادر
البرنامج السياسي المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية المقرر من المجلس الوطني في دورة انعقاده الثانية عشرة 1-8/6/1974. (بلا تاريخ). تم الاسترداد من وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا: https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=4897
نبيل الرملاوي. (2010). السيادة الفلسطينية بين الاحتلال السرائيلي والدولة الفلسطينية. مجلة سياسات، 13-14، 11-24.
Antonius, G. (1939). The Arab Awakening: The Story of Arab National Movement. La Vergne: Simon Publication 2001.
Khalidi, R. (2020). The Hundred Years War on Palestine: A History of Settler Colonialism and Resistance 1917-2017. New York: Metropolitan Books.
Krasner, S. D. (1999). Sovereignty: Organized Hypocrisy. New Jersy: Princeton University Press.
Merriam-Webster.com Dictionary. (n.d.). sovereignty. Retrieved August 12, 2021, from Merriam Webster Dictionary: https://www.merriam-webster.com/dictionary/sovereignty
Montevideo Convention on The Rights and Duties of States. (n.d.). Retrieved from University of Oslo: https://www.jus.uio.no/english/services/library/treaties/01/1-02/rights-...
Pappe, I. (2004). A History of Modern Palestine: One Land, Two Peoples. Cambridge: Cambridge University Bridge.
Philpott, D. (1995). Sovereignty: An Introduction and Brief History. Journal of International Affairs, 48(2), 353-368.
The Editors of Encyclopaedia Britannica. (2020, November 18). Sovereignty. Retrieved August 15, 2021, from Encyclopedia Britannica: https://www.britannica.com/topic/sovereignty