عقدت مبادرة وندسور بيرزيت للكرامة المستضافة في معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان نقاشاً حول إدارة مؤسسات التعليم العالي وأزماتها المتكررة. وساهم في الحوار مجموعة من الأكاديميين والنقابيين وطلبة الدراسات العليا من عدة جامعات فلسطينية وأخرى عربية. افتُتح الحوار بمداخلة قدّمها بيتر براتسس، الدكتور في العلوم السياسية في جامعة مدينة نيويورك، وضّح فيها بعضاً من المعالم الحالية والجذور التاريخية لأزمات إدارة الجامعات. فيما يلي ملخص المداخلة والحوار:[1]
يفتتح براتسس بالإشارة إلى أن "الصناعة الثانية"، بعد التصنيع، التي خضعت لمنطق التنظيم الرأسمالي كانت التعليم العالي. ففي تقرير صدر عام 1910 بتكليف من مؤسسة كارنيجي بعنوان "الكفاءة الأكاديمية والصناعية"، جادل موريس كوك بأن المشكلة الأساسية التي تمنع الجامعات من أن تكون أكثر إنتاجية هي أن أعضاء هيئة التدريس يتمتعون بسلطة كبيرة. كان من الضروري سحب السيطرة على الجامعة بعيداً عن أعضاء هيئة التدريس، وأن تتولى الجامعات إدارة منفصلة عن أعضاء هيئة التدريس وتوجهها وفقا للمعايير الصناعية. وكان هناك حاجة إلى آليات جديدة للتنظيم، وإلى مراجعة المناهج الدراسية لتتوافق مع المعايير الصناعية. ترافق مع ذلك أيضاً تكميم قيمة كل مساق، فأصبحت تقاس بالساعات المعتمدة، وأصبحت الدرجات العلمية تعادل تراكم عدد معين من الساعات المعتمدة. ووُحِّد محتوى المساقات الدراسية، فلم تعد ندوة الأستاذ فلان حول الاقتصاد والمجتمع، بل أصبحت علم الاجتماع 101 ويمكن تدريسها من قبل أي عدد من المتخصصين المعتمدين. وبالتالي، أصبح أعضاء هيئة التدريس أنفسهم معياريين وقابلين للاستبدال بسهولة، مثل العامل على خط التجميع، وأمسى المسؤولون ضروريين ومسيطرين على إدارة مصنع المعرفة الجديد هذا.
ويوضح براتسس أن فكرة إدارة الهيئة التدريسية للجامعات أصبحت اليوم -بعد مرور قرن على صدور التقرير- تبدو فكرة غير معقولة في العديد من الجامعات حول العالم. فبعد صيرورة تحويل الهيئة التدريسية إلى موظفين يمكن الاستغناء عنهم واستبدالهم، انزاح تركيز أعضاء هيئة التدريس وعملهم النقابي نحو الأجور والأمن الوظيفي وظروف العمل، وقبلوا واستدخلوا موقعهم الخانع داخل الجامعة، وتخلوا عن أي محاولات لاستعادة السيطرة على مؤسساتهم. ويطرح براتسس مثال نظام التثبيت الذي أُدخِلَ في البداية كوسيلة لحماية الأساتذة الراديكاليين، ولكن سرعان ما انتشر على نطاق واسع عندما أدرك المسؤولون أن معظم الأكاديميين على استعداد لقبول أجر أقل مقابل الأمن الوظيفي.
تُظهر الأزمة الحالية مع انتشار فايروس كوفيد ١٩، بوضوح شديد، برأي براتسس، أنَّ الصفقة الفاوستية بالتخلي عن الصراع من أجل السلطة مقابل الأمن الوظيفي والأجور المريحة كانت فشلاً كبيراً. كل يوم نرى هذه الإدارات المنفصلة عن حياة الجامعة والمتضخمة تصدر قرارات تتعارض مع مصالح أعضاء هيئة التدريس والطلاب وكذلك مع مهمة التعليم العالي. فلقد أصيب العديد من أعضاء هيئة التدريس بالصدمة عندما علموا أنه ليس بالإمكان استخدام الوقفيات الكبيرة التي جمعتها جامعاتهم لتغطية أي عجز مالي ناتج عن الوباء. فلقد قام المديرون الماليون باستثمار هذه الوقفيات بطرق تضع قيودًا كبيرة على الوصول إليها، وعلى الطرق المتاحة لإنفاقها؛ هؤلاء المدراء ليسوا أعضاء هيئة تدريس وكونهم غير مبالين إلى حد كبير بالتعليم العالي، فقد اتخذوا، وهم يحصلون على رواتب جيدة، قرارات تتجاهل صحة مؤسساتهم. لدى جامعة جونز هوبكنز، على سبيل المثال، وقفية تزيد عن 6 مليارات دولار، لكنها وجدت أن من الضروري إلغاء مساهماتها في صناديق التقاعد، وخفض الرواتب، ومنح إجازات بدون راتب للموظفين تحسبًا لعجز في الميزانية قدره 100 مليون دولار، وهو ما يمثل محض 1.6% من قيمة الوقفيات. أما المؤسسات الأقل حظًا والتي تعتمد على الرسوم الدراسية ودخل السكن لنسبة كبيرة من إيراداتها وجدت نفسها أيضاً غير مستعدة البتة. أصبحنا نشهد فتح الحرم الجامعي في عدة جامعات للطلبة لتسديد رسوم التعليم والسكن، فقط ليغلق بعد بضعة أيام أو أسابيع، ويلقي المسؤولون باللوم على الطلبة دون خجل لأنهم لم يكونوا أكثر اجتهادًا وإدراكًا لبروتوكولات السلامة. إن وضع المصالح المالية في مرتبة أعلى من صحة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس أمر واضح. ويتساءل براتسس: هل كنا سنتخذ نفس القرارات إذا كنا ندير الجامعة؟
إذا كان هناك من أمر أدى إلى تخفيف وطأة تصرفات الطبقة الإدارية لمعظم القرن الماضي، فهو أن الغالبية العظمى من أولئك الذين شغلوا مناصب إدارية جاءوا من بين أعضاء هيئة التدريس. وكما هو الحال في الصناعات الأخرى حينئذ، كان التحرك البطيء والمطرد في التسلسل الهرمي للسلطة داخل المؤسسة هو القاعدة. ولم يكن لهذا فقط ميزة أن مسؤولي الجامعات كانوا أنفسهم أكاديميين قبل تبوئهم المناصب الإدارية (غالبًا ما يحافظون على بعض الإخلاص لأخلاقيات التعليم العالي بالإضافة إلى امتلاكهم لفهم جوهري لصعوبات واحتياجات العمل الأكاديمي) ولكن، والأهم من ذلك، أن مصيرهم مرتبط بمصير مؤسستهم. لم يكن لديهم افتراض بأنهم سوف يختفون في غضون بضع سنوات، وأن أي ضرر طويل المدى يقع على المؤسسة من شأنه أن يلحق الضرر بهم أيضاً. بات الوضع اليوم أسوأ بكثير، فمع تحول الرأسمالية من الرأسمالية الصناعية إلى نموذج الرأسمالية المالية، أصبح تراكم رأس المال يعتمد بشكل أساسي على القدرة على حركة رؤوس الأموال إلى استثمارات تدرُّ عائداً أكبر على الاستثمار. أمر مشابه طرأ على الإداريين في مؤسسات التعليم العالي، فأصبح الإداريون الرحّل يتنقلون من مؤسسة إلى أخرى في محاولة محمومة لتحقيق النجاح المهني. صار البقاء في نفس المنصب لأكثر من بضع سنوات علامة على ضعف الأداء والفشل. ونتيجة لهذه المحدودية الزمنية المستحدثة للوظائف الإدارية، أصبح المسؤولون أكثر انفصالاً واستقلالية ليس فقط عن الهيئة التدريسية ولكن أيضًا عن المؤسسة نفسها. إذا كانت القرارات اليوم تسبّب ضررًا ماليًا طويلَ الأمد للمؤسسة أو لسمعتها أو رسالتها، فلا أحد يهتم، فسيكون الإداريون الرحّل قد اختفوا منذ فترة طويلة عندئذ، بعد أن انتقلوا إلى مراعي أكبر وأفضل.
يشير براتسس إلى الأثر المتزايد للسوق على تنميط ونمذجة التعليم العالي. ويطرح عدة أمثلة على ذلك، منها استبدال نموذج التقييم للطلبة، من التقييم بالنجاح والانتقال نحو مرحلة متقدمة أكثر في التعلم، أو الفشل والحاجة للاستمرار في المرحلة الحالية، وصولاً للنموذج الحالي للتقييم بالدرجات والعلامات، لإعانة السوق على تحديد المرشحين الأفضل للتوظيف بحسب المعايير النموذجية التي قد تشمل أموراً شكلية كأساليب التوثيق العلمي.
وفي ختام مداخلته، قال براتسس إنه مع الظروف التي مرت بها عملية التعليم العالي خلال العام المنصرم، أصبح من السهل تصور مستقبل تُستكمَل فيه عملية التنظيم الرأسمالي لقطاع التعليم، بحيث تُصبح الجامعات تُقدِّم مجموعة محاضرات مصوَّرة ومعدّة مسبقاً، فيما تتعاقد مع شركات في العالم الثالث لاستكمال بعض المهام الإدارية ومراجعة أو تصحيح الأوراق والرد على استفسارات الطلبة وغيرها. ستبدو حينها الجامعة البرجوازية في القرن العشرين كالجنة عند مقارنتها مع هذا النموذج المُحتمَل.
لا يُشير براتسس إلى هذا النموذج المستقبلي كتصور ديستوبي خيالي، بل يؤكد في مداخلته أن التحولات الحالية في التعليم العالي تنحو بهذا الاتجاه. فيستخلص أنه لم يعد بإمكان أعضاء هيئة التدريس البقاء متفرجين على إدارة الجامعات. حتى أعضاء هيئة التدريس الذين يرغبون فقط في أن يُتركوا بمفردهم لأداء عملهم يمكنهم الآن رؤية أن هذا لم يعد ممكناً. فهو يرى أننا أمام خيارين؛ إما أن تستعيد الهيئة التدريسية السيطرة على الجامعة أو سيُحكم على أعضائها أن يكونوا شهوداً على تعفن وانهيار مؤسساتهم، وانقراض الجامعات بالمعنى الجديّ. ويرى براتسس أنه من أجل عكس عملية الانهيار، يجب استعادة مقاليد السلطة في مؤسسات التعليم العالي. فلم يعد التركيز السابق على العقود كافياً كاستراتيجية لحماية الجامعات، بل يتوجب تركيز الجهد النقابي نحو المشاركة في التخطيط المالي ووضع الموازنة والتدخّل في عمليات التوظيف والفصل وكل القرارات المتعلقة بتلك الأسئلة الأساسية التي ستحدد مستقبل الجامعات والتعليم العالي.
طرحت في النقاش جملة القضايا والتعليقات حول ما المقصود بسيطرة الهيئة التدريسية على الجامعة. وعلّق براتسس أن النقطة المركزية تكمن في إلغاء شريحة الإداريين الكبار المنفصلين عن عملية التعليم، مميِّزاً بينهم وبين الإداريين في المناصب دون العليا. موضحاً أنه سيكون هنالك عدة خيارات لكيفية إدارة الجامعات حينها، إحداها قد يكون تدوير المناصب الإدارية فيما بين الأكاديميين. وأشار أكاديميون آخرون من جامعة بيرزيت إلى تحفظّهم على نموذج تدوير المناصب فيما بين الأكاديميين، موضحين أن هذا الشكل التنظيمي هو المتبّع في الجامعة، ولكنه لم يحل أمام التحولات التي ذكرها براتسس في مداخلته. وفي مقابل نموذج التدوير، طُرِحَ نموذج التعاونية الجامعية.
علق براتسس بدوره أن نموذج التعاونيات الجامعية، باعتبار الطلبة أعضاء تعاونيين فيها، قد يحوي على بعض الصعوبات. فعندما يتعلق الأمر بتحديد المناهج التدريسية أو مضامين العملية التعليمية، يرى براتسس أن الهيئة التدريسية هي الأقدر على تحديدها، كونهم أصحاب الدراية فيها. أمور كهذه، برأيه قد لا تصلح لتكون محط نقاش واختيار ديمقراطي يشمل الطلبة. ولكنه في الوقت نفسه، يؤكد أن باقي القرارات السياسية والإدارية والتنظيمية تصلح لأن تكون مادة للقرارات الديمقراطية. طُرح كذلك نموذج الجامعات الشعبية، وأعطي مثال معهد المخيال الراديكالي، وأُشير إلى أن هذا النموذج يحوي طاقات كامنة إيجابية، إلا أنَّه ممكن فقط بسبب نظام التعليم الحالي، حيث يتقاضى الأكاديميون أجورهم من مؤسساتهم التعليمية، ما يتيح لهم المجال للتطوع والتعليم الشعبي بشكل مجاني أو شبه مجاني. وأشار براتسس إلى ضرورة عدم الخلط بين التعليم الشعبي ومفهوم التعليم المستمر، فوضَّح أن الهدف الأساس من خلف التعليم المستمر هو إعادة التأهيل لأصحاب الوظائف التي قد تختفي خلال السنوات القادمة، لتنمية قدراتهم في وتعزيز فرصهم في إعادة خرطهم في سوق العمل بوظائف مغايرة لتلك التي يشغلونها في الوقت الحاضر. بهذا يرى براتسس أن التعليم المستمر هو طريق الطبقة العاملة للتأقلم مع تقلبات السوق واحتياجاته، فتصبح البطالة سبباً للإهمال وانعدام البصيرة، وتغيب المسببات البنيوية لها.
وتطرق الحوار كذلك إلى أن ما وصفه براتسس بالتنظيم الرأسمالي للتعليم العالي يتمايز من دولة إلى أخرى، بالرغم من أن ديناميكيات التحولات في التعليم العالي هي عالمية الطابع، فحال التعليم في الولايات المتحدة، لا يتماثل مع حال التعليم في ألمانيا أو الهند أو فلسطين على سبيل المثال. وانتقد بعض الحضور أيضًا اعتبار براتسس الموظفين الأكاديميين كفئة متجانسة، دون التطرق للتفاوتات فيما بينهم. واختتم الحوار بالإشارة إلى الترابط ما بين الصراعات الاجتماعية عامة والصراع على السيطرة في الجامعات.
[1] بالإمكان الوصول للحوار مسجلاً عبر قناة معهد مواطن على اليوتيوب:
https://www.youtube.com/watch?v=lMUK-sTw0j4
استعنا في تقديم هذا الملخص بمقالة بيتر براتسس بعنوان "كوفيد وأزمة الجامعات الرأسمالية":
https://thegadflybmcc.wordpress.com/2020/11/30/covid-and-the-crisis-in-capitalist-universities/