استضافت مبادرة كرامة البحثية في جامعة بيرزيت، يوم السبت ١٤ كانون الثاني ٢٠٢٣، رائف زريق لعرض ومناقشة كتابه الأخير الذي صدر في منتصف كانون الثاني (بعد اللقاء) عن دار نشر لكسنجتون (Lexington) بعنوان كفاح كانط من أجل الاستقلالية.
افتتح اللقاء مدير مبادرة كرامة مضر قسيس، ورحب بالمؤلف، مشيرا إلى أهمية العمل الذي قام به زريق ليس فقط بسبب مكانة كانط، ولكن لأن قضايا الحق، والعدالة، والأخلاق، والشرعية التي يناقشها الكتاب كلها قضايا مفصلية في مرحلة الانتقال الحقبوي التي يعيشها العالم اليوم.
قدم زريق في بداية مداخلته توصيفا عاما للكتاب، موضحا أن هذا العمل هو نتيجة قراءة متواصلة ومكثفة وملاحظة متوقدة لنصوص كانط بتفاصيلها وفي مراحل مختلفة من حياة كانط، في محاولة لفهم العوالم الأربعة التي تشغل كتابات كانط وهي: السعادة، الفضيلة (الأخلاق)، القانون، والعدالة. فالسؤال الأساسي للكتاب منشغل بهذه المفاهيم وبطبيعة علاقاتها بعضها ببعض، فهل الامتثال للقانون يحقق السعادة؟ أم هل يصبح الإنسان سعيدا إذا كان منحلا أخلاقيا؟
تكمن مقولة زريق في هذا الكتاب بإن إضفاء كانط استقلالية (autonomy) لكل من هذه المفاهيم ومعاملتها على أنها عوالم منفصلة، يأتي من مركزية مفهوم الاستقلالية في منهجية كانط الناظمة لفكره، والتي يمكن تتبعها في معظم كتاباته. ويشير زريق إلى أن "الاستقلالية الكانطية" هي ما يجمع ويفصل بين الذاتي والموضوعي، وبين الحرية والضرورة. فأوضح زريق أن الاستقلالية هي نسق معرفي من الأفكار الناظمة التي تمكنّنا من فهم العالم، فالفكر البشري يعمل وفق مبادئ وقوانين معينة، ومن هنا تنطلق فكرة كانط عن العقل النظري. فالوازع الأخلاقي مستقل، وهناك مبادئ تضبطه. أما الفصل الأكبر عند كانط، فهو بين ما هو موجود وبين ما يجب أن يكون، أي بين عالم النتائج (التبعات) وعالم الأفعال. أما ما يخص القانون، فيتساءل زريق: هل القانون مستقل بذاته؟ هل المنظومة القانونية قادرة على إجابة الأسئلة التي تنشأ في الحيز القانوني بالاستناد إلى عناصر من داخل عالم القانون؟ أم أن هناك حاجة دائمة للارتحال إلى عوالم أخرى؟ هل من الممكن للقاضي أن يجيب عن تساؤلاته حيال قضية ما دون اللجوء إلى عالم الأخلاق (وهذا هو صلب عملية التأويل القانوني)؟
بالنسبة لزريق، الخير الأسمى عند كانط، هو عندما تلتقي الفضيلة بالسعادة، فتصبح درجة السعادة التي نحظى بها تتناسب مع كمية الخير الذي نقوم به في حياتنا. فالأخلاق عند كانط لها أسبقية على السعادة، فيتحول السؤال "ما الذي يتوجب على الإنسان القيام به ليحظى بالسعادة؟" إلى السؤال "هل العيش في مجتمع أخلاقي يعني العيش في مجتمع عادل؟" يوضح زريق أن للعدالة أسبقية على الأخلاق في عوالم كانط الأربعة. فمن الجيد أن نعيش في مجتمع أخلاقي، لكن الأهم من ذلك، هو أن يكون عادلا. لكن ماذا إن تطلب تحقيق العدل قيام ثورة؟ يخبرنا رائف أن إجابة كانط عن هذا السؤال، تتأتى من انشغال كانط بالحاضر أكثر من المستقبل، فلا يعتقد كانط أن هناك ضرورة للتضحية بالحاضر في سبيل المستقبل، فبالإمكان تحقيق العدالة من خلال إصلاح النظام.
وعقب أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية الدراسات العليا والأبحاث، عاصم خليل، على مداخلة رائف وعلى مخطوطة الكتاب، بضرورة التفكير في الأسئلة التي طرحها زريق حول الأخلاق والقانون وتوظيفها في سياقنا الفلسطيني، فيتساءل خليل في هذا الصدد: متى يصبح عصيان القانون ملزما لتحقيق العدالة؟
أما أستاذ الفلسفة مضر قسيس، فعقب بضرورة قراءة كانط قراءة أكثر نقدية من أجل جعله راهنا، لأنه لا يمكن معالجة القضايا الراهنة في ظل الفصل بين النظرية والممارسة. فيرى قسيس ضرورة قراءة كانط بصورة تجعل الفضيلة إلزامية على الشخص غير القاصر (بالمعنى الكانطي)، أي عندما يكون الفرد على دراية بتبعات الفعل. فالمعرفة تنشئ موقعا مسؤولا، وفي هذا الموقع لا يكون الموقف الأخلاقي خيارا، بل موقفا مُلزما. فالفعل الثوري في حال غياب الحرية والعدالة، هو فعل ملزم وليس خيارا كما تقترح القراءة غير الناقدة لكانط. ويتبع ذلك ضرورة إدخال المكون الأخلاقي على المشروعات السياسية، وضرورة تجاوز الفصل التعسفي الذي يقوم به كانط عندما يفصل المبادئ عن السلوك، على اعتبار أن كانط يفصل العقل الخالص عن الفكر العملي، لأن في ذلك فصلا للوعي عن المادة. وختم قسيس مشيدا بالعمل الذي قام به رائف في كتابه، مشيرا إلى نجاعة قراءة كانط من الخلف (backward)، فهذه القراءة تتيح فهم كانط بشكل شمولي دون فصل للعوالم عن بعضها بعضا.
لخص زريق النقاش بالقول إنه بالإمكان تشبيك العوالم الأربعة التي تحدث عنها في كتابه، وذلك من خلال استيعابها بشكل كامل، فالظاهرة توجد ككل، ولا وجود لهذه التقسيمات في المعرفة أو الحياة، فنحن نراها في الجامعة فقط! فصحيح أن هنالك أهمية لفصل العقل العملي عن العقل الخالص، لكن هناك خطورة أيضا؛ فلا بد من إسقاط سؤال السعادة في السؤال عن الأخلاق، وسؤال العدالة في المنظومة الأخلاقية، فالقانون عند كانط ليس ما هو كائن بل ما يجب أن يكون، وهو بذلك العدالة، فعلاقة هذه العوالم بعضها ببعض هو جوهر هذا الكتاب.
يشار إلى أن "كرامة" هي مبادرة بحثية في جامعة بيرزيت تهدف إلى تعزيز إنتاج المعرفة حول الكرامة الإنسانية وما يسهم في صونها، مستخدمة نهج فلسفة الممارسة، وتعالج ما يرتبط بالأحداث والقضايا التي تحدث حولنا من خلال عدسة مفهوم الكرامة.
رائف زريق مختص في فلسفة الحق والفلسفة السياسية ويحمل درجة الدكتوراه في القانون من جامعة هارفارد.