You are here

Revision of الاستعمار from Mon, 10/04/2021 - 01:14

المؤلف/ة
حُدّث بتاريخ:
23 أيلول/سبتمبر 2021
معلومات بيبليوغرافية

الاستعمار شكل من أشكال الهيمنة. إنَّ كتابة مادة قصيرة عن الاستعمار، أو الدراسات الاستعمارية، أو حتى تاريخ الاستعمار الأوروبي تمثل تحديًا، لأن الأمر سيكون أقرب إلى كتابة التاريخ الحديث بأكمله. يمكننا القول إنَّه على مدار القرون الخمسة الماضية، كان الاستعمار الركيزة المفاهيمية الأساسية للتاريخ السياسي والاقتصادي والثقافي الحديث. ويشير الاستعمار تاريخيًا إلى السيطرة على الحُكم، والأرض، والناس – ويكون ذلك متعلقًا بالسلطة السياسية. وتحديدًا على مدى القرون الخمسة الماضية، أشار الاستعمار إلى الفرض القسري للسيطرة العسكرية، والاقتصادية، والسياسية الأوروبية (والأوروبية الأمريكية) على الصعيد العالمي؛ أي أنه، عبر المراحل، والوسائل، والأساليب المختلفة، كان بشكل عام لبنة أساسية لبناء العالم الحديث وتعريفه. يمكن القول إن الخط الزمني التاريخي للقوة الاستعمارية الأوروبية (التي تُعرَّف على نطاق أوسع على أنها "غربية" وتشير عادةً إلى المستعمرات البريطانية، والفرنسية، والألمانية، والهولندية، والبرتغالية) بدأ في العام 1492، وبالتالي يتطلب ذلك فهمًا تقاطعيًا لمفاهيم الحداثة الأوروبية ومراحل الأشكال الحديثة للرأسمالية، فتتداخل الإمبريالية والإمبراطورية مع الفهم المعاصر للاستعمار. هنا، أركز بشكل خاص على الاستعمار بنواحيه السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، وكذلك الثقافية والمعرفية. ونظرًا لأن خصوصيات الاستعمار الاستيطاني الذي يُعتبر التحليل الأساسي في دراسة فلسطين، سيتم تناولها في مقال منفصل، فلن أتناولها هنا إلا باختصار ضمن العنوان الأكبر للاستعمار.

الإرث المفاهيمي للاستعمار في فضاء ومكان فلسطين، عبر الزمن وفي الحاضر، مشحون بإمكانيات لتنظير جديد وفي ذات الوقت، مثقل بسلسلة من التحليلات التاريخية؛ فلسطين ليست استثنائية، ولكن يمكن اعتبارها فريدة من حيث مستويات السيطرة الناتجة عن الاستعمار، والاستعمار الاستيطاني، والاحتلال العسكري التي تشكل جميعها جزءًا من مجال أوسع للإمبريالية الغربية. وفي حين سيكون هناك إدخال مستقل في هذه المجموعة عن كل شكل من أشكال الاستعمار هذه، إلا أنه يظل من المهم هنا اعتبار كل هذه الأشكال ناشئة من الحداثة الرأسمالية الأوروبية ونتيجة لها. يتناول هذا المقال المختصر هذه الموروثات التاريخية والمعرفية كدعوة لمزيد من التحليل في أو من خلال فلسطين وخارجها فيما يتعلق بالخصوصيات الأكثر تعقيدًا لكيفية البحث في الموروثات السياسية والمفاهيمية للطرائق الاستعمارية المختلفة للحكم، فالدعوة هنا هي لتحليل العلائقية مع الموقع في الجنوب العالمي/ العالم الثالث. وإذا كان التعبير عن "العالم الثالث"، كما يجادل فيجاي براشاد، بمثابة صرخة لمعركة سياسية، فإنَّ هذا الإدخال يدعو القارئ أيضًا إلى النظر في الآثار المترتبة على موضعة الاستعمار تاريخيًا في الحاضر الاستعماري/ الإمبريالي (Prashad, 2012).

البدايات – السيطرة على الأرض

في أواخر القرن الخامس عشر، كانت هناك لحظتان رئيسيتان تشكلان سندًا لفهمنا المعاصر حول أصول الاستعمار الحديث؛ المراسيم البابوية المتعلقة بعقيدة الاستكشاف (Newcomb 1992; Todorov, 1992)، وبالتحديد، استندت رحلات كولومبوس باتجاه ما تم وصفه لاحقًا باسم "العالم الجديد" جزئيًا على العقائد اللاهوتية والقانونية التي صاغتها القيادة في الكنيسة الكاثوليكية أثناء الحروب الصليبية وبعدها. ففي العام 1452 (قبل رحلة كولومبوس الأولى بأربعة عقود تقريبًا)، أصدر البابا نقولا الخامس وثيقة بابوية أعلنت بشكل أساسي الحرب ضد جميع غير المسيحيين، وأجازت وحفَّزت الغزو والاستغلال، أي الاستعمار. وفي العام 1492، جسَّد كريستوفر كولومبوس، بدعم من الملكية الإسبانية، هذا النوع من الغزو، وعمل على تنفيذ فكرة أن السلب مرتبط بـ "الاستكشاف". في العام 1493، عززت وثيقة بابوية أخرى هذه الأيديولوجيا ومنحت إسبانيا الحق في احتلال الأراضي التي "اكتشفتها" والاستيلاء عليها، وأُضيف تعديل لاحق مفاده أن هذا الحق في الغزو لا يمكن أن يتدخل في الأراضي التي سيطرت عليها قوى مسيحية أخرى في أوروبا.

استند التوسع الأوروبي إلى "عقيدة الاستكشاف" هذه، وفي تكرارات مختلفة عبر التاريخ الطويل للاستعمار الأوروبي الأمريكي، شكلت [هذه العقيدة] الأساس الثقافي والمعرفي وكذلك المادي للهيمنة الاستعمارية. وبذلك اعتبرت السيادة الأبوية الأوروبية جميع الشعوب الأخرى غير بشرية ولا تستحق "الحق" في امتلاك أراضيها، أو السيطرة عليها، وحتى الحق في الحكم أو الوجود بحد ذاته. في نفس الوقت الذي تم فيه تطبيق هذه العقيدة الوحشية والإبادة الجماعية من قبل العديد من "المستكشفين" الأوروبيين، اتبعت الملكية الإسبانية تكتيكًا محليًا مشابهًا يتمثل بدموية محاكم التفتيش، إيذانا بنهاية "الإمبراطورية الإسلامية" في أوروبا وسقوط الأندلس (‘Akash, 2001; Shohat 1998; Anidjar, 2010). وهكذا بدأ التاريخ الطويل والعنيف للاستعمار الأوروبي الحديث. ويلوح إرث عقيدة الاستكشاف في الأفق عبر القرون؛ ابتداء بعقيدة القدر المتجلي لتبرير توسع المستوطنين البيض في أمريكا الشمالية وتشكيل الولايات المتحدة كدولة جديدة، وصولًا إلى أساطير الصهيونية التي تبرر محاولة محو الفلسطينيين من وطنهم. شكّل العنف المعرفي المتأصل في مفهوم الاستكشاف أساسًا للاستشراق، وهو علم إنتاج المعرفة القاطعة على أساس الهيمنة الاستعمارية والهيمنة الأوروبية، وصاحب القرون اللاحقة للهيمنة الاستعمارية الأوروبية في تمظهرات عدة عبر جغرافيات الحكم الاستعماري. (Said, 1979)

في فلسطين، كما هو الحال في الجغرافيات الأخرى للعنف الاستعماري الاستيطاني، تبنت الصهيونية أشكالًا مشابهة من منطق المستوطنين المتثمل في القدر المتجلي؛ أي أن المفكرين الصهاينة في أوروبا تلاعبوا بالخطاب اللاهوتي لتبرير رغباتهم الاستعمارية بطرق مشابهة لمنطق المستوطنين في أماكن أخرى، ولا سيما في أمريكا الشمالية. (Shihada, 2012)

رأس المال الأوروبي - الهيمنة الاقتصادية

حدث نوع آخر من البدايات في أوروبا خلال القرن السادس عشر متمثلًا بشكل المراحل الأولى لما سيطلق عليه فيما بعد الرأسمالية الصناعية؛ فأدى تطور التكنولوجيا في القرون السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر، إلى تغيير أنظمة الإنتاج الاقتصادي، والتي تطورت بدورها إلى نظام قمع سياسي أوروبي ومن ثم عالمي (Marx and Engels). وتباعًا، سيطرت العلاقة بين التطور التكنولوجي، وأنماط الإنتاج وأنماط القوة الاقتصادية، على التشكيلات الاجتماعية، والسياسية والثقافية للناس (Lenin). بحلول القرن الثامن عشر، كان الشكل المهيمن لهذه التشكيلات هو الدولة القومية الأوروبية الحديثة، وحافظ البناء الخاص لهذه الدولة القومية على البنى الهرمية للسلطة الرأسمالية داخليًا وخارجيًا. وشكل هذا التزاوج بين القوة الرأسمالية والدولة القومية في نهاية المطاف وسيلة للتوسع الرأسمالي وتحوله إلى إمبريالية.

على الرغم من أن النظم الاقتصادية الرأسمالية القائمة على الربح والتوسع بدأت في أوروبا القرن السادس عشر، إلا أن تطور هذا الشكل الجديد من الرأسمالية كان يتمحور حول نمو صناعة النسيج الإنجليزية التي صاحبتها سمة جديدة للتراكم (رأس المال المتراكم). وأدى هذا التراكم إلى زيادة الطاقة الإنتاجية، مما أدى إلى تغيير الواقع المادي والاجتماعي الذي نما حول هذه الطاقة الإنتاجية الجديدة (أنماط الإنتاج). وهكذا، قدم هذا الشكل الجديد والمتطور للإنتاج الرأسمالي وسيلة أخرى للسيطرة والهيمنة المحتملة أصبحت بمثابة جانب أساسي من جوانب الحداثة الأوروبية بحلول القرن الثامن عشر، إضافة إلى الاستعمار الأوروبي الذي كان عاملاً أساسيًا فيها. وبالتحديد، أصبحت أنماط الإنتاج الرأسمالية، ومن يتحكم بأنماط الإنتاج هذه، السمة المركزية الحاكمة في المجتمعات الرأسمالية. في المقابل، تم تبني حقوق الملكية والسيطرة على السوق لهذه الأشكال الجديدة للسلطة الحاكمة التي يحددها التراكم الرأسمالي، والإنتاج، والتسليع، والاستهلاك.

 أما فيما يتعلق بالتوسع الاستعماري، فقد أدى التراكم الأولي لرأس المال، أو الاحتكار الأولي للسيطرة على الموارد والمواد الخام للإنتاج الصناعي، إلى تغذية محركات التوسع الأوروبي (المحركات بمعناها المجازي والحرفي). كان استخدام المادية التاريخية باعتبارها أساسًا لفهم تاريخ ليس فقط الرأسمالية، ولكن أيضًا تحولات السلطة السياسية بمرور الوقت، مكونًا رئيسيًا في فهمنا الجماعي للاستعمار، وعبر مراحل التوسع الرأسمالي، أصبح ما أطلق عليه ماركس في البداية "التراكم الأولي لرأس المال" سمة أساسية لفهم التوسع الإقليمي والسيطرة. ومع الزمن، فهم العلماء التراكم الأولي على أنه تراكم مستمر (عبر مراحل التوسع الاستعماري المستمر) لتفسير العنف المستمر للإمبريالية (Coulhard, 2015). ورغم اختلاف المناهج بين العلماء، إلا أنَّ قوة التراكم ترتبط إلى حد كبير بالمحرك الرئيسي للتوسع الرأسمالي وهي عامل أساسي في الرغبة الاستعمارية (Karuka, 2019).

يصف المؤرخون الذين يستخدمون التأريخ المادي المرحلة المبكرة أو الأصلية للرأسمالية الأوروبية على أنها نوع من إعادة هيكلة المجتمع؛ ففي داخل أوروبا، تُرجمت بنى السلطة الرأسمالية هذه إلى تشكيل وأساس السلطة المؤسسية أو البيروقراطية للدولة القومية، وكان لكل دولة تشكيلات وتحولات خاصة. خلق التقسيم الطبقي للمجتمع، حيث تمارس الطبقة الرأسمالية الحاكمة سلطتها على أساس اضطهاد الطبقة العاملة المشكَّلة حديثًا في المجتمعات الصناعية، مدًا وجزرًا للصراع الطبقي داخل المجتمعات، وأبعد من ذلك فيما يتعلق بالتوسع الرأسمالي العالمي ونمو الرفض الدولي لفرض الترتيبات الهرمية للسلطة السياسية على أساس احتكار رأس المال والسلطة السياسية في أيدي الطبقة الحاكمة (‘Aml, 1979).

وفي حين اتخذ تحول التقسيم الطبقي أشكالًا مختلفة في جميع أنحاء أوروبا، كان ظهور الإمبراطوريات الحديثة قائمًا على التوسع الرأسمالي من حيث الأسواق، وطرق التجارة، وامتلاك الأراضي، وتراكم رأس المال (Byrd, 2014). وسرعان ما تم تقسيم العالم إلى مجتمعات شهدت ما يسمى بالثورة الصناعية، وإعادة الهيكلة السياسية اللاحقة لها، ومجتمعات اضطُهدت من قبل القوة الاقتصادية للدول الصناعية. ورغم أن بناء الدولة القومية الحديثة وتطور الرأسمالية ونموها لم يتبعا شكلاً واحدًا في أوروبا، إلا أنها كانت الوسيلة المهيمنة للحكم القومي بحلول منتصف القرن الثامن عشر. أصبح هذا هو التأريخ الكلاسيكي للثورتين الفرنسية والأمريكية (1789 و1776). غيّر واقع الرأسمالية علاقات الناس مع الطبيعة المحيطة بهم، فتطلبت الرأسمالية مدنًا بما يتعلق بالسكان، ورأس المال، والإنتاج (Harvey). وعكس نمو المدن الحديثة في أوروبا اضطهاد الأراضي المستعمَرة (Ho Chi Min; Biko; Guevara)؛ وهذا يعني أن المدن ولدت من رحم الحاجات والمطالب الصناعية تمامًا كما تم بناء الدول المستعمَرة حول هذه المطالب نفسها (Harvey, 2012, Hampton).

ورغم اعتبار الاستعمار مرجعًا عامًا لتاريخ التوسع الأوروبي، إلا أنه اتخذ أشكالًا مختلفة وعدداً لا يحصى من الأهداف؛ الاستعمار الكلاسيكي الذي تم البحث فيه بشكل خاص في الدراسات حول الاستعمار في إشارة إلى السيطرة الاستعمارية البريطانية في الهند، هو نوع واحد من الاستعمار الأوروبي (Amin; Guha; Chakrabarty; Chatterjee). مارس البريطانيون السيطرة على شكل إمبراطورية شاسعة وأسسوا البنى السياسية في الهند لدعم نواياهم الإمبراطورية، أما في أماكن أخرى، فكان الاستعمار الاستيطاني شكلاً أكثر شيوعًا، حيث كانت الأرض هي الهدف الأساسي إضافة إلى الهدف النهائي المتمثل في امتلاك أرض بدون شعب. في هذا السياق، اتخذ التوسع الأوروبي شكل الاستعمار الاستيطاني، حيث تمت ترجمة التوسع على أنه استئصال (Wolfe) ومحو (Kauanui). في جغرافيات الاستعمار الاستيطاني، لم يكن هدف المجتمع الاستيطاني مجرد السيطرة على السكان الأصليين، بل القضاء على شعوب هذه الأراضي لبناء مجتمع استيطاني يحل محلهم (Wolfe).

كانت تجارة العبيد أيضًا جانبًا أساسيًا للتوسع الاستعماري؛ فشكلت العبودية التقليدية (خاصة في الأمريكتين) الأساس للنمو العنيف للرأسمالية، وكانت تجارة البشر والعبودية هما الأساس التاريخي للحداثة (Robinson; Gilroy). وفي حين يُشار إلى فرنسا والولايات المتحدة بشكل شائع في أدبيات الحداثة الليبرالية كأمثلة كلاسيكية لكيفية تطور الدول في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تكشف نظرة خاطفة على تاريخ هايتي (ولا سيما ثورة هايتي في العام 1791) عن العديد من مستويات الاضطهاد التي أنتجتها الحداثة الاستعمارية؛ وكمثال تأسيسي لثورة العبيد، كشف شعب هايتي في أواخر القرن الثامن عشر عن اضطهاد الاستعمار الإسباني والفرنسي، وعن تناقضات الوعود المتضمنة في الديمقراطية الليبرالية والحداثة (CLR James). تُعد قصة هايتي أيضًا مصدرًا أساسيًا لفهم الاستعمار من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأيضًا لفهم كيف يعمل القمع الاستعماري بمرور الوقت لإسكات الماضي الثوري والوعود التي يحملها في الوقت الحاضر (Trouillot). يتردد صدى الموروثات التاريخية لتجارة العبيد بوحشية كبيرة في العالم المعاصر؛ فالعنصرية هي نتيجة مباشرة ومستمرة للتوسع الاستعماري للرأسمالية في جميع أنحاء العالم حيث أن العنصرية، كما الاستشراق، تتبع منطق الهيمنة.

الإمبراطورية – السيطرة الإمبريالية

يعتبر التداخل بين الاستعمار والرأسمالية والإمبريالية جانبًا أساسيًا للحداثة الأوروبية الأمريكية؛ فمع بداية القرن التاسع عشر، وصلت الطموحات الاستعمارية الأوروبية إلى نقطة تنافسية دموية تمثلت بالحرب العالمية الأولى. بعد قرون من رسم الخرائط الاستعمارية وفرض الحدود وجغرافياتها المتخيَّلة على العالم (Said)، شنَّت القوى الأوروبية حربًا إمبريالية على نفسها وعلى العالم (Lenin). في أعقاب الحرب، بدا أن نظامًا عالميًا جديدًا يظهر كما تم التعبير عنه في تشكيل قانوني (League of Nations). وتكرَّرت الإمبراطورية مجددًا مع تعزيز وفرض نموذج الدولة القومية (Hardt and Negri). فعلى سبيل المثال، اتخذ الاستعماران البريطاني والفرنسي في الشرق العربي شكل نموذج الانتداب، وهو شكل من الحكم الاستعماري عُدّل حديثًا بأساس قانوني يُشغَّل عبر رعاية عصبة الأمم (Khalidi). في فلسطين، كما في أي مكان آخر في المنطقة، كان هذا يعني خدمة الحكم البريطاني للإمبراطورية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني (Barakat). وبعد الحرب العالمية الثانية وظهور الأمم المتحدة كشكل جديد من أشكال التنظيم العالمي، أفسح الاستعمار المباشر في مناطق جغرافية مختلفة المجال لأشكال مجددة من الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية من خلال ما يسميه البعض الاستعمار الجديد، ومن ثم أصبح للإمبريالية محركات جديدة لقيادة هذا النوع من التأثير مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

فهم الاستعمار من خلال الرفض

من السهل القول إن المستعمَر هو من فهم ويفهم الاستعمار بالشكل الأمثل. ويقدم إيمي سيزير في كتابه الشهير "خطاب حول الاستعمار" تشخيصًا كاملاً للطبيعة الوحشية الهمجية غير المتحضرة للحكم الاستعماري، في تعليقه البسيط على الإبادات الجماعية في منتصف القرن العشرين في أوروبا، حيث وصفها بعودة الاستعمار إلى الوطن (Cesaire). عملت السيطرة الاستعمارية على تدمير الثقافات، وسلب ممتلكات الناس، ومحو حضارات بأكملها. بدأت منذ القرن الخامس عشر إعادة تنظيم جديدة للعالم على شكل سيطرة استعمارية استخدمت الأسلحة العنيفة للتوسع الرأسمالي مقترنة بخطاب حضاري. وخلق الاستعمار نظامًا عالميًا مانويًا (Fanon)، وجاء القهر والعنصرية مع هذا النظام العالمي عبر الامتياز الأبوي للتمثيل الأوروبي لذاته العليا (Said; Spivak). الاستعمار هو وحشية العنف المطلق، وكان رفض هذه الوحشية كما أوضح أميلكار كابرال، ديمقراطية ثورية. الاستعمار هو الفرض العنيف لنظام عالمي يخدم حصريًا مصالح الطبقة الحاكمة البيضاء الأبوية الرأسمالية، وتفكيك هذا النظام المفروض، كما أوضحت أودري لورد، يعني تفكيك البنى التي أسسها [النظام العالمي المفروض].

يتردد صدى كلمات فرانز فانون اليوم عندما عبر تعبيرًا بسيطًا عن العنف الاستعماري والمقاومة ضد الاستعمار: "عندما نثور، فإنَّ ذلك لا يتعلق بثقافة معينة. إنَّنا نثور ببساطة لأننا لم نعد قادرين على التنفس لأسباب عدة" (Fanon). ما تزال الموروثات الحديثة للاستعمار تلوث العالم، وفلسطين هي نذير للماضي الاستعماري والحاضر الاستعماري الاستيطاني (Sayigh). وباعتبارها الجغرافيا التي قاومت عنف الاستعمار الرأسمالي ومحاولات المستوطنين للمحو، فإنَّ شعب فلسطين ومكانها يمثلان أيضًا الاحتمالات الكامنة في رفض النظام الذي فرضه التاريخ الاستعماري. وكما وصف غسان كنفاني في كتيب قصير عن ثورة العام 1936 في فلسطين، فإنَّ مقاومة الناس لرغبات المستوطنين، والخطط الإمبريالية، والوكلاء المحليين لهذه الأشكال من السيطرة تشكل درسًا في التاريخ الحديث على قوة المقاومة ضد الاستعمار (Kanafani, 1969).