ملخص الدراسة
تسهم هذه الدراسة في فتح مسار جديد في محاولة فهم السيادة وتقرير المصير الفلسطيني، عبر معانٍ خاصة تفرضها المحاولة وممارسة[1] المواجهة واستمرارها في بنية الاستعمار الصهيوني الاستيطاني، وتتخذ الدراسة محاولة الأسرى الفلسطينيين في المواجهة، وممارستهم لها، واستمرارهم فيها، كنموذج -المواجهة بالإضراب عن الطعام- في منظومة السجن وبنيتها العنيفة، عبر قراءة تاريخية لتجربة أسرى (جيل انتفاضة الأقصى)[2]، منذ عام (2004م – 2017م)، بما في هذه التجربة من إشكاليات، تكشفها الاستمرارية، التي بدورها تبين أثر التراكم فيها؛ فالأدبيات والدراسات التي تناولت السيادة وتقرير المصير بقيت محصورة بما فرضته المركزية الأوروبية، والقومية، والمنظومة الحقوقية الدولية، بما في ذلك تبني النمطية السياسية الفلسطينية هذه التوجهات؛ ما يجعل هذه الدراسة تأتي -كما ذكرت أعلاه- مساراً جديداً لقراءة السيادة وتقرير المصير الفلسطيني.
وقد اعتمدت هذه الدراسة بصورة أساسية على الرواية الشفوية؛ بوصفها أحد أهم المداخل لجلب رواية الأسير الفلسطيني (جيل انتفاضة الأقصى)، وتحليلها، عبر مقابلات حوارية مع أكثر من (30) أسيراً محرراً، إلى جانب الملاحظة، فضلاً عن جزء من أرشيف الصحف الفلسطينية، وأرشيف جمعية نادي الأسير الفلسطيني، على وجه الخصوص، بما فيه من مراسلات كثيفة تعكس تفاصيل رحلة كل إضراب ومساره ومصيره في الفترة التاريخية الممتدة منذ عام (2004م – 2017م)؛ إذ يُشكل الأرشيف، على وجه الخصوص، داعماً أساسياً للتحليل التاريخي للرواية، فضلاً عن اعتماده على المنهج الفكري الحي الذي فرضه الأسير وليد دقة؛ بوصفه محاولة وممارسة في منظومة السجن.
وتستند القراءة التاريخية عبر رواية (جيل انتفاضة الأقصى) بما تحمله من خصوصية، إلى زمنٍ خاص، تفرض معناه تجارب الإضراب عن الطعام؛ بوصفها سيادة على الزمن، وتستمد نفسها من رحلة المواجهة، التي بدأت فعلياً منذ وعيه الأول المرتبط بانتفاضة الحجارة عام 1987م، وما تلا تلك المرحلة من مسار جديد فرضته مرحلة التسوية، إلى أن شكلت انتفاضة الأقصى عام 2000م، فرصتهم لاستعادة المواجهة، واستمرارها لاحقاً في منظومة السجن بأشكالها المختلفة، بما فيها تجربة الإضراب عن الطعام.
وتكشف الدراسة عن التحولات التي أصابت تجارب الإضراب عن الطعام، بما تعكسه من ممارسة للسيادة وتقرير المصير الفلسطيني، وبخاصة منذ عام 2004م، الذي شكّل هزة جذرية لمسار التجربة، بما فيها من قراءة لتحولات بنية العنف الاستعمارية الصهيونية الاستيطانية، المتمثلة في منظومة السجن، وكيف أثرت هذه التحولات على محاولة الأسرى وممارستهم تجربة الإضراب عن الطعام لاحقاً.
وتعكس رواية أسرى (جيل انتفاضة الأقصى) لغة خاصة، بما تحمله من غضب، يصب في مسارين: أحدهما نحو المستعمِر (السّجّان)، وآخر نحو القيادة، وتبرز محاولة استعادة تجربة الإضراب عن الطعام عبر إضراب الشعبية عام 2011م، والإضرابات الذاتية[3] بكثافتها عام 2012م، إضافة إلى محاولة جديدة لمعنى الاستمرارية في السيادة وتقرير المصير، بما فيها من إشكاليات، تتوجت فعلياً في إضراب عام 2012م، ولاحقاً في استعادة المواجهة من جديد في إضراب عام 2014م، وما آل إليه من مصير.
ويُشكل إضراب الأسرى عن الطعام عام 2017م، كثافة تجربة (جيل انتفاضة الأقصى)؛ لما فرضه من تساؤلات وتناقضات كثيفة في منظومة السجن، أسهمت في ترسيخ كثير من التحولات التي أصابت تجربة الإضراب عن الطعام؛ فكانت كاشفاً ومِصفاةً لواقع المواجهة ونوع (العلاقاتية)، بما فيها علاقة الأسير بالسّجّان، وعلاقة السجن الصغير (الداخل) بـالسجن الكبير (الخارج)، ودور هذه المركبات في تشكل مصير المواجهة ومسارها، فضلاً عن الأهمية الأساسية في بقاء المحاولة والممارسة للمواجهة، إلى جانب استمرارها الذي أسهم في الكشف عن الإشكاليات المتربصة بها، وأهمها نوع القيادة.
وتتضمن رحلة هذه الدراسة في محتواها خمسة فصول:
الفصل الأول: يتضمن الإطار النظري والمنهجي للدراسة؛ إذ تستند إليه الفصول اللاحقة، إضافة إلى قراءة الصعوبات والتحديات التي رافقت رحلة البحث، ومراجعة أدبيات الأسرى حول تجربة الإضراب عن الطعام تاريخياً؛ بوصفه ممارسة ومحاولة مستمرة منذ عام 1967م – 1993م.
الفصل الثاني: يعكس حكاية (جيل انتفاضة الأقصى) عبر روايتهم المتأصلة بوعي المواجهة، التي تمثل امتداداً تاريخياً لها منذ انتفاضة الحجارة، مروراً بمرحلة التسوية، ووصولاً إلى انتفاضة الأقصى، ورحلة السجن، حيث تبدأ فيه رحلة (جيل انتفاضة الأقصى) في المواجهة عبر تجربة الإضراب عن الطعام عام 2004م، بما فيه من قراءة مسار التجربة، وتحدياتها، وصراعاتها، ومصيرها، وخصوصيتها التي تستمدها من رواية الجيل، وما تحمله من معانٍ خاصة للسيادة وتقرير المصير الفلسطيني عبر المحاولة والممارسة والاستمرارية، إلى جانب قراءة التحولات التي فرضتها، بما فيها من إشكاليات.
الفصل الثالث: يتضمن هذا الفصل محاولة استعادة تجربة الإضراب عن الطعام، عبر إضراب فرضته الجبهة الشعبية عام 2011م، إلى جانب كثافة الإضرابات الذاتية التي بدأت منذ أواخر عام 2011م وتصاعدت مع بداية عام 2012م، وعملت محركاً لعودة تجربة الإضراب عن الطعام إلى الواجهة، بما فرضته هذه المحاولات من قراءة خاصة وأهمية عرّت تراجع المواجهة الجماعية، التي ارتبطت بجملة الإفرازات التي خلفها إضراب عام 2004م.
الفصل الرابع: يعكس هذا الفصل الامتداد الناجم عن استعادة المواجهة، التي نضجت في محاولة إضراب عام 2012م، الذي سقطت فيه التجربة الجماعية للأسرى؛ إذ شاركت فيه التنظيمات، دون أسرى حركة التحرير الوطني الفلسطيني -فتح- بوصفه تنظيماً، وفيه حقق الأسرى منجزات كان أهمها إنهاء قضية العزل الانفرادي، التي شكلت أبرز أدوات العنف، التي دفعت الأسرى إلى الإضراب عن الطعام، كما يتناول هذا الفصل، على وجه الخصوص، رواية أسرى حركة فتح، التي أخذت قراراً بعدم المشاركة؛ لما عكسته روايتهم من كثافة في التناقضات والصراعات التي تُعاني منها الحركة والأثر الحاصل على فكرة المصير؛ لتعود المحاولة من جديد في إضراب الأسرى الإداريين عام 2014م، بما رافقه من تحديات وعوامل أسهمت في تشكيل مصيره، وما اثاره من تعقيدات وتساؤلات كثيرة.
الفصل الخامس: يتناول هذا الفصل الحديث عن إضراب الكرامة عام 2017م؛ بوصفه نتاجاً لاستعادة المحاولة والممارسة واستمرارهما؛ إذ مرت الإضرابات السابقة في رحلة طويلة، أفرزت خلاصات مهمة، نقلتها الرواية، وبخاصة فيما يتصل بمعنى السيادة وتقرير المصير الفلسطيني، الذي يستند معناه إلى استمرار المحاولة والممارسة، كيف لا، وقد شكل إضراب عام 2017م، خلاصة تاريخية للتجارب السابقة، بما يحمله من إفرازات تراكمية، وكثافة في التساؤلات عن الراهن، وما يعكسه من وضوح أكثر لرواية (جيل انتفاضة الأقصى)، رواية الغضب؟
[1] سيتكرر مفهومان أساسيان في هذه الدراسة: المحاولة والممارسة، ولا يمكن فهمهما إلا بتتبع تجارب الإضراب؛ بوصفه محاولة وممارسة في السيادة وتقرير المصير؛ فالمحاولة هي الأساس والطريق الموصل إلى لحظة الممارسة الفعلية ونضج القرار؛ إذ إنّ هناك كثيراً من المحاولات التي تبقى محاولة، دون أن تصل إلى مستوى الممارسة التي تبدأ بالقرار الحاسم في المواجهة، وما الممارسة ذاتها إلا سلسلة من المحاولات، التي يمكن أن تنتج ممارسات أو تبقى محاولات، وهي ما تعطي معنى الاستمرارية؛ ما يعني أنّ المحاولة والممارسة والاستمرارية ترتبط بخيط متصل؛ لتشكل المعنى الذي تسعى إليه الدراسة حول السيادة وتقرير المصير.
[2]جيل انتفاضة الأقصى: هو صانع الانتفاضة و(وقودها)؛ بوصفها أول مواجهة مسلحة يخوضها منذ وعيه بأهمية المواجهة؛ كيف لا، وهو من يصف نفسه عبر روايته الخاصة (بجيل انتفاضة الأقصى) التي فرضت مصيراً خاصاً، له روايته الخاصة، وعلى الرغم من حضور روايات من أجيال أخرى، تعكس امتداد تجارب الإضراب، إلا أن هذه الدراسة تتكئ أساساً على رواية (جيل انتفاضة الأقصى) ، الذي عبر عن نفسه بصيغة أخرى أعطت معنىً خاصاً له هي(جيل الغضب).
[3]تميل أغلب الأدبيات التي تناولت الإضرابات الذاتية سابقاً، إلى وصفها بالإضرابات الفردية، لكن، ولأسباب أساسية، جعلت الدارسة الإضرابات الذاتية وصفاً مستخدماً في هذه الدارسة، في مقدمتها التمييز بين الفرد الذي رسخته المنظومة القائمة؛ بوصفه فرداً بعيداً عن مدى فعاليته، فضلاً عن كون هذه المنظومة قد أسهمت بصورة أساسية في ترسيخ بنية الاستعمار، ومنها الاستعمار الاستيطاني؛ ما يجعل هذه الدراسة تتخذ من الذاتية وصفاً فاعلاً في مواجهة الاستعمار الاستيطاني، ولا يخفى على أحد، أنَّ بنية السجن (الحداثي) تسعى إلى تحويل الأسرى إلى أفراد، وتستهدف أي فعل جماعي؛ ما يجعل الأسير (الفرد) ممارساً فاعلية الذات الجماعية؛ بفعل المواجهة، وبكلمات أخرى، فإنَّ مواجهته منظومة السجن (الحداثي) ما هو إلا كسر للهدف الذي تسعى إليه.