You are here

الكفاح المسلح

Primary tabs

المؤلف/ة
حُدّث بتاريخ:
30 آب/ أغسطس 2021
معلومات بيبليوغرافية

شهدت أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن العشرين حراكاتٍ واسعة في التجمعات الفلسطينية المختلفة تدعو لمقاومة الواقع البائس الذي يعيشه شعب فلسطين العربي منذ نكبة العام 1948، ولتجاوز حالة انتظار الحلول الخارجية، عبر استنهاض مختلف مكونات الشعب الفلسطيني الممزّق، باستخدام كل الوسائل الممكنة، بما في ذلك الكفاح المسلح، لتحدي هذا الواقع وتغييره، على غرار ما كان يحدث آنذاك في عدد من بلدان العالم المستعمرة، وخاصةً في الجزائر.

وكانت شعوبٌ أخرى قد تحرّرت في أنحاء العالم خلال السنوات السابقة معتمدةً على الكفاح المسلح، مثل شعب الصين (1949) وشعب فييتنام، الذي هزم الاستعمار الفرنسي (1954) وانتزع استقلال القسم الشمالي من وطنه آنذاك، وشعب كوبا، الذي أطاح بنظامٍ فاسد وتابع (1959). كل ذلك في سياق حراكاتٍ واسعة شهدتها البلدان المستعمَرة، خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف التحرر وانتزاع حق شعوبها في تقرير المصير.

وكان الشعب الفلسطيني قد اعتمد الكفاح المسلح، قبل ذلك، في مواجهة الغزو الاستيطاني الصهيوني والانتداب البريطاني المتواطئ معه. فالشيخ عز الدين القسام لجأ منذ العام 1935 إلى السلاح لمواجهة المستعمِرين والغزاة، ودفع حياته ثمناً لهذا الخيار. وألهمت تضحيته وتضحية رفاق دربه ثوار الأعوام التالية 1936- 1939، الذين اعتمدوا، بعد الإضراب الشامل الشهير، على السلاح القليل الذي توفّر لهم لتحدي قوةٍ عظمى رئيسية في عالم تلك الحقبة، الدولة البريطانية، ومواجهة التشكيلات الصهيونية المسلحة وأنوية الاستيطان الاستعماري المتمدّدة في أنحاء فلسطين.

وبالرغم من القمع الرهيب الذي تعرّض له ثوار أواخر الثلاثينيات والظروف الصعبة التي عاشها الشعب الفلسطيني بعد ذلك، فقد عاد بعض مناضليه في أواخر الأربعينيات، في ظروفٍ محليةٍ ودوليةٍ أصعب بكثير، لاعتماد العمل المسلح في مواجهة المرحلة التالية والأخطر من المشروع الصهيوني، مرحلة إقامة الدولة. فسقط من سقط من الشهداء في ساحات القتال غير المتكافئ، وفي المقدمة قائد جيش الجهاد المقدس، عبد القادر الحسيني، في وقتٍ دُفعت فيه غالبية الشعب الفلسطيني، بقوة السلاح، وبشكلٍ مبرمج ومقصود، خارج الأرض والوطن.

وبعد انتهاء الحرب غير المتوازنة بين جيوش عددٍ من الدول العربية (الخاضعةً، في غالبيتها، لنفس المرجعية البريطانية)، والتشكيلات الصهيونية العسكرية، المدجّجة بالسلاح والمستفيدة من تسهيلات سلطات الانتداب، وحتى دعمها المباشر، ومن رفد بعض الأطراف الخارجية لها بالسلاح والمال، عاش الشعب الفلسطيني الموزَّع بين عددٍ من المناطق والبلدان مرحلة مخاضٍ وترقُّب لما يمكن أن تؤول إليه مساعي الدول العربية، وجهود الهيئات الدولية، لإنصافه وتأمين أحد حقوقه الإنسانية الأولية، حقّ العودة إلى وطنه والعيش بأمانٍ فيه.

ولكن هذا الترقّب لم يكن يعني التسليم بالواقع. فمنذ السنوات الأولى التي تلت النكبة، تلاحقت عمليات "التسلل" التي كان يقوم بها بعض الذين أبعدوا خارج أرضهم ووطنهم، أحياناً وهم يحملون السلاح، وخاصةً من الضفة الغربية لنهر الأردن التي جرى ضمُّها إلى المملكة الأردنية الهاشمية في مطلع الخمسينيات، وكذلك من قطاع غزة. وشهدت الأعوام ما بين 1949 (عام عقد اتفاقات الهدنة بين الدولة الصهيونية والدول العربية الأربع المتاخمة لها) والعام 1956 (عام إعلان عبد الناصر تأميم قناة السويس، و"العدوان الثلاثي" اللاحق على مصر) عملياتٍ فدائيةً مسلحة انطلاقاً من المناطق الحدودية في قطاع غزة والضفة الغربية، وحتى من سوريا ولبنان، باتجاه الأراضي التي سيطرت عليها الدولة الصهيونية، غالباً بمبادراتٍ من أفرادٍ أو مجموعاتٍ فلسطينية صغيرة، ولكن أحياناً بتشجيعٍ من الدولة المصرية، خاصةً بين أواخر العام 1955 وربيع العام 1956 – جرى إحصاء حوالي 180 عملية فدائية من قطاع غزة بين نهاية سنة 1955 وربيع سنة 1956 Black 2017, chapter 9)).

وفيما عمدت القوات الإسرائيلية إلى قتل عدة آلاف ممّن أسمتهم بـ"المتسلّلين"- بعض المصادر تحدّث عن 5000 من ضحايا القتل الإسرائيلي خلال تلك السنوات (Black 2017)، والمؤرّخ الإسرائيلي شلومو زاند تحدّث عن مقتل 394 "متسلّلاً "خلال عامٍ واحد هو العام 1952 (Sand, 2012, p.235)، تكبّد الإٍسرائيليون أنفسهم خسائر في الأرواح، نتيجة عمليات إطلاق نارٍ أو زرع ألغامٍ ونصب كمائن قام بها الفدائيون الفلسطينيون. وقَدّرت المؤرّخة الإسرائيلية أنيتا شابيرا تلك الخسائر بأكثر من 300 قتيل خلال تلك السنوات السبع (Shapira, 2012, p.274). لكن هذه العمليات انحسرت بعد الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة وسيناء في سياق "العدوان الثلاثي" على مصر في أواخر العام 1956، ثم انسحاب القوات الغازية تحت الضغط الدولي.

وفي الوقت ذاته، أُقيم العديد من التشكيلات والتنظيمات في مختلف مناطق تواجد الشعب الفلسطيني منذ ما بعد النكبة مباشرةً، وطوال الخمسينيات وأوائل الستينيات (ماهر الشريف 1995، ويزيد صايغ 2002، و"شهادات2"، 2009)، ودعا بعضها لاعتماد الكفاح المسلح لتغيير الواقع القائم.

وجاء الانتصار المدوّي لثورة الشعب الجزائري المسلّحة ضد الاستعمار الفرنسي، وإعلان استقلال الجزائر في 7/1962، بعد أكثر من 130 عاماً من الاحتلال والإذلال، ليشكّل مصدر إلهامٍ وتحفيزٍ لشبان فلسطين ومناضليه عامةً. وبات الحديث عن ضرورة اعتماد الكفاح المسلح كأداةٍ نضالية رئيسية، وأحياناً حتى وحيدة، لازمةً في برامج وشعارات مختلف الحراكات الوطنية الفلسطينية في عقد الستينيات. فقد دعت "منطلقات حركة ’فتح‘": إلى "اعتماد الكفاح المسلح الوسيلة الوحيدة والحتمية لاستعادة فلسطين..." (ماهر الشريف، 1995، ص. 114)، واعتبر الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الذي أُقرّ في شهر تموز/يوليو 1968 أن "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين" (الوثائق الفلسطينية للعام 1968، ص. 521).

من جانبها، عمدت الأنظمة العربية الحاكمة، وخاصة مصر جمال عبد الناصر، إلى الدعوة لالتئام سلسلة قممٍ عربية لمناقشة سبل مواجهة عدوانية الدولة الصهيونية، انعقدت أولاها في القاهرة (بين 13 و16 كانون الثاني/يناير 1964)، وانتهت بالدعوة لإقرار "إنشاء كيانٍ فلسطيني يجمع إرادة شعب فلسطين ويقيم هيئةً تطالب بحقوقه"، وجرى تكليف أحمد الشقيري "بالاتصال بالدول الأعضاء وبالشعب الفلسطيني بنية الوصول إلى القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره" ("وثائق فلسطين"، 1987، ص. 419-420). فيما قام مؤتمر القمة العربي الثاني، الذي انعقد في الإسكندرية بين 5 و11/9/1964، بـ"تحديد الهدف القومي في تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني..."، كما قام بـ"الترحيب بقيام منظمة التحرير الفلسطينية دعماً للكيان الفلسطيني، واعتماد إنشاء جيش التحرير الفلسطيني" ("وثائق فلسطين"، ص. 420-421). ذلك أنه، بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس بين 28 أيار/مايو و2 حزيران/يونيو 1964 وإعلان تشكّل منظمة التحرير الفلسطينية، بُدئ في تشكيل وحدات جيش التحرير الفلسطيني في عددٍ من الدول العربية.

لكن بعض التنظيمات الفلسطينية التي كانت قد تشكّلت أنويتها الأولى قبل ذلك، وخاصةً حركة "فتح"، رأت في خطوات القمم العربية هذه محاولةً من الأنظمة العربية لمحاصرة الحراكات الشعبية الفلسطينية وتوظيفها في إطار سياساتها الخاصة. وكان التيار الأقوى في حركة "فتح" حريصاً على استقلالية قراره تجاه هذه الأنظمة العربية، خاصةً في ما يتعلق ببدء العمليات المسلحة ضد الدولة الصهيونية. وكما هو معروف، لم تلبث حركة "فتح" أن أعلنت في مطلع العام 1965 عن بدئها لعملياتٍ مسلّحة ضد مواقع إسرائيلية. فيما اعتبرت بعض الأنظمة العربية، وخاصةً النظام المصري، أن مثل هذه العمليات يمكن أن "تورّطها" في مواجهةٍ مبكّرة مع الدولة الصهيونية.

ومع تزايد هذه العمليات، وانخراط مجموعاتٍ وتنظيماتٍ فدائية أخرى في العمل المسلح، ومع تصاعد ردود الفعل الإسرائيلية الدموية - ومن بين أعنفها في تلك السنوات العدوان الإسرائيلي على بلدة السموع، قضاء الخليل، في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1966 (Shlaim, 2001, p. 234)، تزايد التعاطف الشعبي الفلسطيني، والعربي، مع حَمَلة السلاح الفلسطينيين الجدد. وهو تعاطفٌ تصاعد على نطاقٍ أكبر بعد العدوان الإسرائيلي الأوسع في حزيران/يونيو 1967، حيث لم تلبث العمليات المسلّحة للفدائيين الفلسطينيين أن استُؤنفت بعد الاحتلالات الإسرائيلية الجديدة، بترحيبٍ واسع من شعوب المنطقة، وبتشجيعٍ معلن، هذه المرة، من قبل نظام عبد الناصر في مصر.

وتعاظم هذا الدعم الشعبي، الفلسطيني والعربي، للعمل الفدائي المسلّح بعد عددٍ من العمليات الجريئة التي قام بها الفدائيون الفلسطينيون، وخاصةً بعد المواجهة التي جرت يوم 21 آذار/مارس 1968 في قرية الكرامة على الضفة الشرقية لنهر الأردن، وتصدّت خلالها مجموعةٌ محدودة العدد من الفدائيين - أقلّ من 300 - ("شهادات2" 2009، شهادة نصر يوسف ص. 84- 85) لأرتالٍ من المدرّعات وآلافٍ من الجنود الإسرائيليين، وكبّدتهم خسائر ملموسة – 28 قتيلاً و90 جريحاً، حسب الخبير الإسرائيلي يهوشفاط هاركابي ( Hirst, 1977, p.285) - . وإثر انتشار أنباء تلك المواجهة، تدفّق الآلاف من المتطوعين الفلسطينيين والعرب، وحتى بعض الأجانب، على مواقع التدريب للتنظيمات الفدائية في الضفة الشرقية لنهر الأردن. وانفتحت الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد ذلك، على حركات التحرر في أنحاء العالم على أوسع نطاق، وتفاعلت معها في مجال الخبرة التاريخية والتدريب. مع العلم بأن الصين كانت قد فتحت أبوابها، حتى قبل حرب العام 1967، لاستقبال قادة الشعب الفلسطيني وتدريب مناضليه، ولاحقاً فييتنام الشمالية كذلك. فيما كانت تجربة هذين الشعبين في مجال المقاومة المسلحة، وتجارب عربية (الجزائر وجنوب شبه الجزيرة العربية خاصةً) وعالمية أخرى، محط اهتمامٍ في قواعد الفدائيين في الأردن.

ولم تلبث هذه المقاومة الفلسطينية المسلّحة أن أصبحت عنصراً مرئياً ومؤثّراً في أوضاع المنطقة وحسابات الدول الكبرى. وهو ما جعل جوزف سيسكو، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا، يتحدّث في أواسط سنة 1970 عن "صعود الحركة الفلسطينية مع قدرتها المتزايدة كقوةٍ سياسيةٍ هائلة [formidable] في المنطقة... تمثّل، بالحدّ الأدنى، تسييساً لمشكلة اللاجئين التي كانت موجودةً في المنطقة لأكثر من 20 عاماً". (International Documents 1970, p. 194).

لكن التطوّرات اللاحقة أظهرت حجم التعقيدات الإقليمية والدولية التي كانت تواجه هذا الصعود الفلسطيني المستند إلى الكفاح المسلح. ففي أيلول/سبتمبر 1970 شنّت القوات الأردنية هجوماً شاملا على مواقع الفدائيين الفلسطينيين، وهو هجومٌ استُكمل بعمليات قرضٍ متواصلة بعد ذلك، وانتهى بهجومٍ أخير في أواسط تموز/يوليو 1971 على مواقع الفدائيين في أحراش جرش-عجلون أدى إلى سقوط عددٍ كبيرٍ منهم بين شهداء وجرحى، والى اعتقالاتٍ واسعة، وخروج الآخرين من الأردن.

وشكّلت هذه التطورات المأساوية صدمةً هائلة للحركة الوطنية الفلسطينية. فإذا كان صحيحاً أن شعار الكفاح المسلّح الذي رفعته المنظمات الفدائية لم يكن مبنياً، بالأساس، على وهمٍ بإمكانية حسم المعركة مع إسرائيل بالقوة الذاتية الفلسطينية وحدها، وإن صدرت أحياناً بعض التصريحات المتسرّعة على هذا الصعيد، إلا أن الرهان كان، من جهة، على تأمين "قاعدةٍ آمنة" للمقاومة الفلسطينية المسلحة ومن يمكن أن ينضمّ إليها من قوى التحرر العربية، على غرار ما شكّلته فييتنام الشمالية في تلك الحقبة بالنسبة للقسم الجنوبي من البلد، المسيطَر عليه من قبل الأميركيين آنذاك، ومن جهةٍ أخرى، على استنهاض الجماهير العربية، بحيث تنخرط الشعوب والجيوش العربية في القتال لحسم المعركة وهزيمة المشروع الصهيوني. وها هو مشروع "القاعدة الآمنة" في الأردن ينهار، فيما لم تستطع الشعوب العربية القيام بأي دورٍ فعّال لحماية المقاومة الفلسطينية من هذه الهجمة، ولم تبدِ غالبية الدول العربية أيّ تضامنٍ عمليٍ معها، واكتفت قلةٌ منها بإعلاناتٍ وتحركّاتٍ محدودة النتائج والمفاعيل.

وشهدت المنطقة العربية في مطلع السبعينيات جملةً من التطورات التي انعكست سلباً على الحركة الوطنية الفلسطينية. ففي أواخر أيلول/سبتمبر 1970، توفي جمال عبد الناصر، الرمز الرئيسي لصعود حركة التحرر الوطني العربية في أواسط القرن العشرين. وخلفه في رئاسة مصر أنور السادات، الذي لم يلبث أن فتح الطريق لتحوّلٍ كبيرٍ نحو اليمين في سياسة النظام المصري وفي تحالفاته الدولية، تزامن مع تغيّراتٍ شبيهة جرت في دولٍ عربية أخرى في الأشهر والسنوات اللاحقة. وبالرغم من قيام مصر بشنّ حربٍ على إسرائيل، بالتنسيق مع سوريا، في تشرين الأول/أكتوبر 1973، وهي حربٌ كان عبد الناصر يعدّ لها منذ ما بعد هزيمة 1967 ولكن بأفقٍ وحساباتٍ مختلفة، لكن السادات وظّفها في استراتيجية تقاربٍ مع الولايات المتحدة لتشجيعها على رعاية صفقةٍ مباشرة مع إسرائيل. وهو ما حصل فعلاً بعد ذلك، وانتهى بعقد المعاهدة الثنائية المنفردة في آذار/مارس 1979، التي أخرجت مصر من المواجهة مع إسرائيل، وتركت الجبهات العربية الأخرى، وخاصةً الجبهة الفلسطينية، لمصيرها.

واختار الفلسطينيون، بعد خسارة القاعدة الأردنية، وفي مناخات المساعي الرسمية العربية التي تكثّفت في أوائل السبعينيات لاعتماد الحلول السياسية لاستعادة أراضيها المحتلة، تحديد هدفٍ "مرحلي"، تبلور تدريجياً باتجاه المطالبة بإقامة دولةٍ مستقلة في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في العام 1967، بعد جلائها عنها. ولكن الغزاة المحتلين لم يسلّموا بأي حقٍ فلسطيني، حتى بالحدود الدنيا، وواصلوا محاولاتهم لضرب النهوض الوطني الفلسطيني.

فلم تلبث الساحة اللبنانية، التي لجأ إليها الفدائيون بعد خسارة القاعدة الأردنية كمشروع "قاعدةٍ آمنةٍ" بديلة، أن اشتعلت في مواجهتهم في حربٍ أهلية- إقليمية- دولية، هدفت إلى استنزافهم وإشغالهم، وإضعاف التضامن الشعبي اللبناني معهم، وتوريط الطرف السوري في الصراعات المتعددة الدائرة فيه، فيما كانت الجهود الدبلوماسية الأميركية تتكثّف لاستكمال الصفقة الثنائية المنفردة على الجبهة المصرية. فتحوّل الكفاح المسلح الفلسطيني في تلك السنوات، إلى حدٍ كبير، من أداةٍ للضغط على الاحتلال الإسرائيلي إلى أداة دفاعٍ عن الوجود وعن المكتسبات السياسية التي تحقّقت حتى ذلك الحين، وخاصةً الاعتراف العالمي بحضور الشعب الفلسطيني وبحقوقه الوطنية الأساسية، بما في ذلك حقّه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرض وطنه.

ووصلت تلك الهجمة الدولية – الإقليمية على المشروع الوطني الفلسطيني إلى ذروتها بالحرب التي شنّتها القوات الإسرائيلية على لبنان في 6/1982. ومع أن الأهداف الأكبر لتلك الحرب لم تتحقّق، إلا أن قوات المقاومة الفلسطينية وقياداتها، من غير اللاجئين الأقدم في لبنان، اضطُرّت إلى مغادرة البلد وتوزّعت بين عددٍ من البلدان العربية، في إخفاقٍ ثانٍ لتوفير "القاعدة الآمنة". وهو ما دفع التيار الرئيسي في الحركة الوطنية للتركيز، بعد ذلك، على البحث عن حلولٍ سياسية، في وقتٍ كان فيه وضع المحيط العربي يزداد تدهوراً، مع انشغال بعض أطرافه الرئيسية بحروبٍ وصراعاتٍ جانبية.

وفيما استمرّت العمليات المسلّحة، وإن بوتيرةٍ أضعف، من جنوب لبنان، وكذلك داخل الأراضي المحتلة، اصطدمت محاولات شقّ طريق الحلول السياسية بتطوراتٍ غير مؤاتية في الساحة العالمية، التي شهدت هجوماً شاملاً من قبل حلفاء إسرائيل، وخاصةً الولايات المتحدة، على معسكر حركات التحرر الوطني ودول الخيار الاشتراكي، وهو هجومٌ ساهم في إضعاف الاتحاد السوفييتي، الحليف الدولي الأقوى للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، وانتهى بانهياره وتفكّكه.

جاءت الانتفاضة الشعبية الكبرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أواخر العام 1987، في هذه المناخات، لتفاجئ العالم كله، بدءًا بالمحتلين الإسرائيليين، الذين كانوا يكثّفون عمليات القمع في الأراضي المحتلة بعد حربهم في لبنان. وشكّلت الحراكات الشعبية غير المسلّحة السمة الرئيسية للانتفاضة، فأصبح الحجر رمزاً لهذا التحرّك الشامل لمختلف قطاعات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وضد محاولات ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية والمسّ بمكانتها حتى في المحافل العربية، كما بدا في القمة العربية التي انعقدت في عمان بين 8 و11 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، قبل شهرٍ من اندلاع الانتفاضة ( Laurens, 1999,  p.408و Shlaim, 2001, p.458). وشكّلت الانتفاضة بالفعل إعادة اعتبارٍ باهرة للحركة الوطنية ولحضور الشعب الفلسطيني على الساحة العالمية، وهو ما دفع حلفاء إسرائيل، وخاصةً الولايات المتحدة، لبذل مساعٍ متجدّدة لمحاولة احتوائها بشتى الطرق. وجاء انعقاد مؤتمر مدريد في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1991، بعد ضرب القوة العسكرية العراقية في مطلع ذلك العام، ومفاقمة الانقسامات في الصفوف العربية، في هذا السياق، وكذلك الاتفاقات التي عُقدت في السنوات اللاحقة، سواء اتفاق أوسلو (أيلول/ سبتمبر 1993) وملحقاته، أو معاهدة وادي عربة الموقّعة في 26 تشين الأول/ أكتوبر 1994 بين الأردن وإسرائيل.

وبدا وكأن عصر الكفاح المسلح قد ولّى، وأن مرحلةً جديدة من المفاوضات والجهود الدبلوماسية ستحلّ محلّه نهائياً. هذا، مع أن العمليات المسلحة ضد الاحتلال تواصلت من قبل أطرافٍ فلسطينيةٍ أخرى غير تلك التي انخرطت في الجهود الدبلوماسية (التي شملت الاعتراف المتبادل مع إسرائيل في 1993، والذي بدأت معالمه تتبلور تدريجيا منذ بداية الحوار مع الولايات المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1988). وجاء تعثُّر مسار أوسلو واندلاع الانتفاضة الثانية في أعقاب فشل مؤتمر كامب ديفيد في صيف العام 2000 وزيارة أريئيل شارون الاستفزازية إلى المسجد الأقصى في أواخر أيلول/سبتمبر 2000، ليؤشّرا إلى عودةٍ للعمل المسلح، هذه المرة في ظروفٍ وفي ظلّ معطياتٍ مختلفةٍ تماماً. فحملة القمع الدموية الواسعة التي شنّها جيش شارون، بعد انتخابه رئيساً للحكومة الإسرائيلية في مطلع سنة 2001، والتي أعاد خلالها السيطرة المباشرة على مناطق الحكم الذاتي في الضفة الغربية، أظهرت أن السلاح الخفيف الذي لجأ إليه المناضلون الفلسطينيون، مهما بلغ استبسالهم، لا يستطيع حسم المعركة، في ظل معطياتٍ كهذه، وفي مواجهة جيشٍ مدجّجٍ بالسلاح الأكثر تطوراً والذي لا يميّز بين المقاتلين والمدنيين، ولا تردعه أية اعتباراتٍ أخلاقية أو إنسانية.

وفي قطاع غزة، الذي قرّر شارون إخلاءه من المستوطنات والحضور العسكري المباشر داخله، وهو الإخلاء الذي أُنجز في 12 أيلول سبتمبر 2005، ليُفرَض عليه بعد ذلك حصارٌ بريٌ وجويٌ وبحريٌ محكم، تعرّض الشعب الفلسطيني هناك في السنوات اللاحقة لسلسلةٍ متواصلة من الاعتداءات والحروب، شنّتها آلة الحرب الإسرائيلية (كانون الأول/ديسمبر 2008، وكانون الثاني/يناير 2009، وتشرين الثاني/نوفمبر 2012، وتموز-آب/يوليو/أغسطس 2014، وأيار/مايو 2021)، وواجهها شعب القطاع وقوى المقاومة بما توفّر لديها وما تمكّنت من تطويره من أسلحة، بشجاعةٍ ملفتة، بالرغم من الاختلال الهائل في موازين القوى، والخسائر البشرية الكبيرة التي تكبّدها سكان القطاع ومناضلوه. 

 ومع تدهور الأوضاع الداخلية لعددٍ من البلدان العربية منذ العام 2011 بعد أن تحوّلت الحراكات الشعبية في بعضها إلى حروبٍ أهليةٍ- إقليميةٍ- دولية أخذت تهدّد وحدة البلدان المعنية واستقلالها، تفاقم الاختلال في موازين القوى في المنطقة لصالح إسرائيل. وهو تفاقمٌ أتاح لبعض الأنظمة العربية الانفتاح العلني على الدولة الصهيونية، وحتى بالنسبة لبعضها لبناء علاقاتٍ تحالفية معها. وبدت هنا قضية الشعب الفلسطيني وكأنها تتجه للتهميش، وكأن اليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم أصبح يفرض أجندته في المنطقة، بقوة السلاح والتفوق التكنولوجي في المجالين الأمني والعسكري، وتطوّر وضعه الاقتصادي المدعوم بقوة من الولايات المتحدة منذ عدة عقود، إلى جانب شبكة علاقاته الدولية والإقليمية التي تعزّزت منذ التسعينيات الماضية.

وهكذا، فإذا كان الكفاح المسلح أحد الشعارات الرئيسية التي شكّلت رافعةً لصعود الحضور الوطني الفلسطيني في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات الماضية، فهو كان وسيبقى وسيلةً لتحقيق الهدف، وليس هدفاً بحدّ ذاته. والهدف هو، بالطبع، إنهاء الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني عبر استعادته لحقوقه الوطنية في أرضه ووطنه. أما الوسيلة فتخضع لحساب الجدوى في كل ظرفٍ وفي كل مرحلة. فكل حركة وطنية واعية لا بدّ أن تضع في الحسبان عند اختيار أدواتها النضالية حسابات الربح والخسارة، والوسائل الأكثر ملاءمةً وفعاليةً للنضال في كل ساحةٍ ومرحلةٍ، كما لا بد لها أن تدقّق في وضع المحيط الإقليمي والوضع العالمي وتأثيراتهما المحتملة.

ومهما كانت شجاعة المناضلين وتصميمهم على نصرة قضيتهم واستعادة حقوقهم المشروعة، فمن المهم ألاّ تتحوّل أية وسيلة نضالية إلى "صنمٍ" (fetish) يُنظر إليه كمفتاحٍ لمعالجة كل المشكلات والتعامل مع كل الحالات، في كل زمانٍ ومكان، بغض النظر عن المعطيات والموازين والاحتمالات الناجمة عن اللجوء إليه. صحيح أن اللجوء إلى الكفاح المسلح ساهم في تحقيق إنجازاتٍ فعلية للشعب الفلسطيني في مرحلةٍ كان فيها حضور هذا الشعب مهدَّداً بالتغييب النهائي وكانت حقوقه مهدّدة بالشطب الكامل. ولكن، في ظروفٍ أخرى، كما في الانتفاضة الكبرى الأولى مثلاً، يمكن أن تكون هذه الوسيلة غير مجدية أو حتى سلبية المفعول. وفي حالاتٍ أخرى، يكون طبيعياً تماماً أن يدافع المواطنون عن أنفسهم عندما يتعرّضون لعدوانٍ مباشر، كما حصل مراراً في قطاع غزة خلال السنوات الأخيرة.

كل ذلك لا يلغي كون لجوء الطرف المغبون إلى الكفاح المسلح، أو بتعبيرٍ أعمّ إلى "العنف الثوري"، يأتي كردة فعلٍ على العنف الأصلي الذي يمارسه الطرف الظالم، وهو، في الوضع الفلسطيني، المشروع الصهيوني الاستعماري الإجلائي التوسعي، الذي لم ينفك، منذ عقودٍ طويلة، يمارس اعتداءاته على سكان البلد الأصليين وعلى أرضهم ويحول بينهم وبين العيش الآمن في وطنهم وديارهم. فالأصل هو عنف الظالم، وهو الذي ينبغي أن يتوقّف، والظالم هو الذي ينبغي أن يسلّم بحقوق الشعب المغبون الذي تأتي مقاومته المشروعة للظلم في إطار دفاعه الاستراتيجي عن وجوده وحقه في وطنه.

المصادر

الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968- مؤسسة الدراسات الفلسطينية - 1970.

وثائق فلسطين – مائتان وثمانون وثيقة مختارة (1839 – 1987) – دائرة الثقافة، منظمة التحرير الفلسطينية – 1987.

ماهر الشريف - "البحث عن كيان - دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908 - 1993" - مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، دمشق – 1995.

محمد داود عودة (أبو داود) - بالتعاون مع جيل دو جونشيه – "فلسطين من القدس الى ميونيخ" -  دار النهار للنشر، بيروت - 1999.

يحيى يخلف (إعداد وإشراف عام)- "شهادات عن تاريخ الثورة الفلسطينية - الكتاب الثاني" - مكتب الشؤون الفكرية والدراسات، "فتح"، رام الله - 2009. (شهادات2).

يزيد صايغ – "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة" - مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت - 2002.

Ian Black- "Enemies and Neighbours: Arabs and Jews in Palestine and Israel 1917 – 2017", Atlantic Monthly Press, New York, 2017.

David Hirst – "The Gun and the Olive Branch" - Futura Publications, London- 1977.

Henry Laurens – "Paix et Guerre au Moyen-Orient – L`Orient Arabe et le Monde- 1945 `a nos jours" - Armand Colin Editeur, Paris- 1999.

Shlomo Sand – "The invention of the Land of Israel: From Holy Land to Homeland"- Verso Books, London-New York, 2012.

Anita Shapira – "Israel: A History" – Brandeis University Press, Waltham, Massachusetts, 2012.

Avi Shlaim- "The Iron Wall- Israel and the Arab World" - W.W.Norton & Company, New York-London, 2001.

International Documents on Palestine – 1970 - Institute for Palestine Studies, Beirut – published 1973.