ملاحظات مفاهيمية

Primary tabs

 

 

ملاحظات مفاهيمية

مؤتمر مواطن السنوي السادس والعشرين

"متى تعود الابتسامة إلى عالمنا؟"

25 - 27 أيلول / سبتمبر 2020

 

 

أدى تفشي وباء فيروس كورونا في بداية سنة 2020 وتخبط غالبية الدول في مواجهته، والحيرة حول ضرورة المفاضلة بين صحة وحياة الناس وصحة الاقتصاد (وربما حياته أيضا) إلى انكشاف النظام العالمي. لقد رفعت الجائحة القناع عن أمور كثيرة، وكشفت زيف الوعد النيوليبرالي بالتمكين، وتحقيق الذات، وانطلاق الطاقات، فاتضح أن المسار الذي وعد بالتمكين وتحقيق الذات والانطلاق مرهون بعبودية تتم من خلال تكبيل الناس بسلاسل الدين، والاستهلاك، وغياب الضمان الاجتماعي، وغياب الأمن، بالإضافة إلى سلسلة من الأزمات الاقتصادية والسياسية. كما كشفت أن الحكومات وأجهزتها قادرة على التدخل وتنظيم الأمور حين تريد، وكشفت كذلك أن استثمار الدول في الأمن شكل أولوية فكانت الأنظمة الأمنية أكثر جاهزية من الأنظمة الصحية في أغلب الدول وعلى كل المستويات.

أفضت الأزمات المتتابعة منذ بداية القرن إلى ازدياد الاستقطاب في العالم في عملية أماطت اللثام عن قرب انتهاء "القرية العالمية"، وعن الوعد بعالم يعمه السلام يتجه بخطى حثيثة نحو الديمقراطية وتعزيزها، ويحتفي بحقوق الإنسان. وباتت مظاهر الاستقطاب تتخذ أشكال الفروقات الصارخة في الثروة، والحروب، والنزاعات، والصراع على الهيمنة، واحتقار القانون الدولي، ونمو الشعبوية اليمينية بنزعات فاشية متزايدة. وبطبيعة الحال، رافق ذلك نمو أشكال مختلفة من المقاومة لهذه الظواهر بطرق متنوعة.

على مستوى العلاقات الدولية، باتت علاقات الدول أشبه بما كانت عليه في القرن التاسع عشر، فعاد الاستعمار بأساليبه القديمة لحماية الاستعمار الجديد الذي بات مهددا من ناحية، ومتنازعا عليه من ناحية أخرى. شهد ربع القرن الأخير (بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وزوال "الخطر الشيوعي") عمليات عسكرية أمريكية في أفغانستان، وإيران، وباكستان، والسودان، وسورية، والصومال، والعراق، وكولومبيا، وليبيا، وهاييتي، واليمن، ويوغوسلافيا. هذا بالإضافة إلى التدخلات غير المباشرة (مثل فنزويلا)، وإلى امتلاك الولايات المتحدة لما يزيد على ثمانمائة قاعدة عسكرية على أراض أجنبية. وبشكل عام تشير النزاعات الإقليمية والحروب بالوكالة المتزايدة إلى تصاعد التنافس بين القوى الإمبريالية على الهيمنة. وانتقلت روسيا إلى العمل على توسيع رقعة الهيمنة وعمقها عبر المواجهة مع الغرب من خلال دعم انفصال أسيتيا وأبخازيا عن جورجيا سياسيا وعسكريا، و(إعادة) الاستيلاء على القرم، وإنشاء مركز ثقل في شرق أوكرانيا، ولعب دور استراتيجي في سورية، ودور آخر في ليبيا، والترويج لتصعيد قوتها العسكرية. وانتقلت الصين، باستخدام ما يطلق عليه "القوة الناعمة"، يرافقها استعراض للقوة الخشنة، لتتحول إلى قوة عالمية بمكانة أقوى من تلك التي كانت لها إبان الحرب الباردة. وقامت اليابان سنة 2014 بتعديل قوانينها بما يسمح بانخراط قواتها العسكرية بالقتال خارج البلاد، وجاء ذلك بعد عدد من التعديلات التي هدفت إلى عودة اليابان إلى لعب أدوار عسكرية بدءا من سنة 1991.

شكل "العالم الأول" بؤرة الزلازل الاقتصادية التي كان أقواها زلزال سنة 2008، ثم بات بؤرة للزلزال الصحي إبان الجائحة سنة 2020. وسرعان ما أدت هذه الزلازل إلى ردود فعل سياسية تمظهرت في نشوء حركات وتحولات جديدة مثل حركة إندغنادو في إسبانيا (والتي تمخض عنها حزب بوديموس)، وحركة السترات الصفراء في فرنسا، وحركة حياة السود مهمة التي انتشرت من الولايات المتحدة إلى دول أخرى كثيرة. ويتسع بشكل متزايد في أوروبا انتشار الخطاب حول ازدواجية التاريخ (التاريخ التحرري، والتاريخ الاستعبادي) الذي زاوج بين رفاه أوروبا ونهب ما بات يعرف بالعالم الثالث، ووصل مؤخرا إلى أفعال شعبية رمزية تكمن في تحطيم رموز العبودية والاستغلال بعدما ما اقتصر هذا الخطاب لفترة طويلة على "المثقفين النقديين". أما من الوجهة الأخرى، شهدت التوجهات الشعبوية نموا ملحوظا في الدول الغربية وتلك التي انضمت إليها من شرق أوروبا، وباتت الاتجاهات اليمينية ذات التوجهات العنصرية، والفاشية، دارجة في دول العالم الأول، ولم يعد خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان سائدا بالضرورة.

أما "العالم الثاني" فيعمل على إنهاء حالة أحادية القطب (وهي جوهر ما أُطلق عليه "القرية العالمية"). ويتوقع المحللون أن تفضي التوازنات الجديدة إلى عالم متعدد الأقطاب وليس العودة إلى الثنائية القطبية.

ويشهد العالم الثالث تحولات كثيرة بينها "ميادين التحرير"، التي أعلنت الرغبة الشعبية بإعادة تشكيل الأنظمة السياسية. كما ويشهد موجة جديدة من الحروب بالوكالة، وتوترات إقليمية متصاعدة (إثيوبيا، وإيران، وباكستان، وتركيا، وجنوب أفريقيا، ودول الخليج، والسودان، وغرب أفريقيا، وفنزويلا، ومصر، والهند، وغيرها). كما يشهد بروز قوى إقليمية صاعدة مثل إيران، والبرازيل، وتركيا، وجمهورية جنوب أفريقيا، والهند. وتستمر في الهيمنة فيه عموما قوى سلطوية ذات اتجاهات يمينية بعضها شعبوي. الجديد، أو المستجد، في مشهد العالم الثالث هو الانقسام الحاد بين أولئك المرتضين بواقع الحال ولا يرون أساسا لإحداث تغيير، وأولئك الذين يعتقدون أن الوقت قد حان لإعادة تشكّل العالم على أسس جديدة.

هناك أمور لافتة فيما يتعلق بعملية الاستقطاب: أولها، إن هناك محاولات متعددة لبناء الأحلاف، والحركات السياسية على أسس غير قومية أو إقليمية أو أيديولوجية (مثل مجموعة "بريكس"). وثانيها، إن الصراعات داخل التحالفات الإقليمية تشتد، ومن الأمثلة على ذلك مشاكل الاتحاد الأوروبي والشكوك الشعبية بشأن جدواه، وخروج المملكة المتحدة منه، والانقسام داخل مجلس دول التعاون الخليجي، وتراجع دور فنزويلا ضمن الاتجاه المناهض للإمبريالية في أمريكا الجنوبية، وغير ذلك. وثالثها، إن عمليات الاستقطاب الداخلية باتت تتخذ السمة الشعبوية بشكل متزايد، فلم تعد النحبة الحاكمة في إسرائيل تكتفي بـ"الخطر العربي"، بل باتت تحذر ليل نهار من "اليسار"، وتفاخر ببناء تحالفات مع اليمين العربي. مثال آخر هو الشرخ غير المسبوق بين النخب الأمريكية. ورابعها، إن هناك مشاريع جديدة ومتعددة لبناء أحلاف سياسية عالمية أممية عابرة للدول، ومتجاوزة للولاء القومي: فيعتقد الناشطون المعادون للسياسات النيوليبرالية في إسبانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، واليونان أن عليهم التحالف فيما بينهم ومع الحركات التي تتبنى مواقف مشابهة في شرق آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، والعالم العربي. من اللافت أيضا أن بعض ممثلي هذه الحركات التي تسعى إلى أن تكون عابرة للدول حققوا نتائج متقدمة على صعيد حملاتهم تجسدت بحصول ساندرز ذي الخطاب الاشتراكي على أصوات عالية في الحزب الديمقراطي، ونجاح حزب سيريزا المصنف يساريا متطرفا في الانتخابات في اليونان سنة 2015، والتحولات غير القليلة في سياسة حزب العمال البريطاني تحت قيادة كوربن، ووصول كاترين جاكوبسدوتر من الحزب الاشتراكي البيئي إلى رئاسة الوزراء في أيسلندا، وغيرها.

وباختصار، يمر العالم في مرحلة استقطاب واصطفاف تشير إلى وجود قناعة لدى جميع الأقطاب أن العالم قاب قوسين من الدخول في حقبة جديدة. ويقوم الجميع بصقل سيوفهم من أجل تحقيق أفضل المواقع ولعب أكبر دور في تشكيل النظام القادم. بيد أن الصراع على المستقبل هو في حقيقة الأمر صراع بين قوى الحاضر، وتنافس على القدرة على تسخير أدوات الحاضر لمصلحة تحقيق الرؤى الراهنة المتناقضة حول المستقبل. ويشكل الحفاظ على الوضع الراهن وتكريسه وتعميقه إحدى الرؤى للمستقبل بالضرورة، ويتبنى هذه الرؤية أولئك الذين يتربعون على عرش الحاضر. وفي المقابل، هناك قوى تسعى إلى الخروج من الأزمات والتعثر، أدركت زيف الوعد النيوليبرالي، وأصبح لها زخما في أنحاء العالم.

نتيجة هذا الصراع ستحدد المستقبل. فإذا استطاعت الأنظمة، بعد ما تحولت إلى ما يمكن وصفه بالنيوليبرالية الأمنوقراطية من قمع حراكات التغيير، ونجحت في تعزيز هيمنتها الشعبوية اليمنية، ستزداد أوضاع البشرية سوءا، وسنكون على شفى حرب عالمية ثالثة أو ما يشبهها. يشار إلى أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن جائحة كورونا، التي ضربت العالم قبل أن يتعافى اقتصاده من أزمة سنة 2008، يمكن أن تسهم في زيادة فرض تحقق هذا الاحتمال، خاصة بعدما تمدد وتعزز دور قوى الأمن بشكل إضافي في مرحلة الجائحة.

الاحتمال الثاني هو أن تقرر القوى الفاشية نقل المعارك مع جماهير بلدانها إلى حروب، لتحمي نفسها وتعمل على ترميم أنظمتها من خلال عمليات إعادة البناء والتخلص من البطالة والمعارضة في ساحات الحروب. وفي هذه الحالة سيعود العالم إلى حالة قرينة بما تلى إحدى الحربين العالميتين: إما اقتسام عسكري يشكل حالة رديفة للاحتلال والانتداب والوصاية بأدوات عصرية؛ أو اقتسام ناعم يشكل حالة رديفة للاستعمار الجديد بأدوات عصرية.

أما الاحتمال الثالث فيكمن في أن يجد العالم نفسه منهكا ومتهالكا، ومضطرا إلى صوغ نظام عالمي جديد لا يعتمد على الاقتسام الإمبريالي للعالم، بل على ترجيح الميزان لصالح الشعوب من جهة وتحجيم القوى المهيمنة حاضرا من جهة أخرى.

ويعتمد ترجيح الاحتمالات على عوامل كثيرة ليس أقلها قدرة القوى المناهضة للنظام الراهن على التنظيم السياسي العقلاني الفاعل، وهو خيار نراه قادما إما في المدى المنظور، أو المدى الأبعد. وفي كل الأحوال، لا نملك مقومات تصميمه، أو حتى وصف معالمه، ولكننا نعرف أنه سيلد من رحم الحاضر، وأنه سيتشكل من تلك المكونات التي ستتمكن الحركات السياسية في أنحاء العالم من تشكيلها، وبذلك الزخم الناتج عن نشاطها السياسي بشكل رئيسي.

محاور المؤتمر

سيناقش مؤتمر مواطن السنوي السادس والعشرون هذه القضايا على النطاق العالمي بما يشمل النطاق العربي، ويعرض لها في ثلاثة محاور:

المحور الأول: تشخيص أزمة النظام العالمي الراهن وسبر عمقها وتبعاتها، ونقاش طبيعة الحقبة النيوليبرالية، وتراجع مكانة ودور المؤسسات الدولية، واستقطاب الثروة، وتتابع الأزمات، ونمو الاتجاهات الشعبوية والفاشية، وأنماط الهيمنة بما في ذلك الأمننة، والرقمنة، والقوننة، والسياسة الحيوية، والإفقار المعرفي، ووقع كل ذلك على العالم العربي.

المحور الثاني: آليات التحول والتغيير في النظام العالمي، ويناقش الحركات والحراكات السياسية وطبيعتها المطلبية من جهة والبنيوية من جهة أخرى، وآفاق التضامن الأممي، والثورات، وارتباط القضايا التحررية المناهضة للاستعمار، والتي تكافح التلوث واستنزاف الطبيعة والاحتباس الحراري، وتلك التي تناضل من أجل الحريات، وضد التمييز، وفي سبيل العدالة، وآفاق نجاحها، وأشكال تنظيمها (بما في ذلك الرقمنة)، وفعلها السياسي، وأدواتها المعرفية، ومكانة العالم العربي ودور شعوبه في عملية التغيير.

المحور الثالث: معالم المستقبل من حيث رفاه الشعوب، والعدالة، والثروة، والعمل، والتعليم، والصحة، والضمان الاجتماعي، وكيفية انعكاس التحولات الممكنة على العالم العربي.