اختُتِمت أعمال اليوم الثاني من مؤتمر معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان – جامعة بيرزيت، في دورته الثلاثين، بعنوان "وقع الإبادة في غزّة على مستقبل العالم وقراءة القضيّة الفلسطينية"، بترتيب هجين جمع بين الحضور في حرم الجامعة والفضاء الافتراضي، بمشاركة واسعة من الباحثين والأكاديميين والطلبة من فلسطين والعالم.
افتُتِح المؤتمر برسالة تحية تضامنية مسجلة قدمتها الأكاديمية المناضلة أنجيلا دايفيس، حيث أشارت إلى أن مقاومة الفلسطينيين ونضالهم قد ألهم العالم بأسره. تلا ذلك كلمة مفتاحية لـ رالف وايلد من جامعة لندن، تناول فيها التحولات التي تشهدها منظومة القانون الدولي وحدود دور المؤسسات القانونية في ظل الإبادة الجارية في غزة، مسلطاً الضوء على تآكل قدرة النظام القانوني العالمي على فرض قواعده.
وخلال كلمته، ناقش وايلد حجج القانونيين الدوليين حول إمكانية تعزيز الامتثال للقانون الدولي في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، موضحا أن هذه الحجج تفترض وجود "بذور تقدم" داخل النظام الدولي، بينما تكشف المقاربة الواقعية أن القوة هي المحدد الأساسي للسلوك الدولي. وأكد أن تأييد الأغلبية العالمية للقانون الدولي فيما يخص فلسطين لا يغير من واقع أن الدول القوية، القادرة على خرق القواعد، لا تتأثر بهذا التأييد، بينما يمكن للدول الأقل قوة تبني مواقف مبدئية لا تكلفها شيئاً.
وأشار وايلد إلى أن ازدواجية المعايير ليست مجرد انزياح عن السلوك الدولي والقانوني، بل جزء من بنية تشكله، ما يجعل استراتيجية فضح النفاق غير فعالة سياسيا، وطرح مفهوم "التفاخر القانوني الدولي"، حيث تعلن الدول مواقف قانونية عالية النبرة دون تعديل فعلي لممارساتها. كما شدد على أن النظام القانوني الدولي يفتقر إلى سلطة عليا ملزمة، وأن تطبيقه يعتمد على الامتثال الطوعي المبني على مصالح الدول، وهو منطق ينهار أمام اختلالات القوة، كما حدث في غزة. وأوضح أن مجلس الأمن، الجسم الوحيد القادر على فرض الالتزامات، "مشلول" بفعل حق النقض الذي يحمي القوى الكبرى من المحاسبة، ما يبرر الدعوات لإصلاح المجلس أو تجاوز قيوده عبر الجمعية العامة.
في الجلسة الثالثة، التي ترأسها علاء العزة، قدم الباحث والكاتب الكردي السوري محمد جمعة آلا الورقة الأولى بعنوان: "الشرق مرغم على البحث عن بديل حر لأنه بات مركزاً للخراب العالمي"، تناول خلالها واقع الشرق الأوسط كمركز للخراب وانهيار النموذج الليبرالي، مؤكداً ضرورة إعادة بناء الأفق السياسي والمعرفي عبر مراجعة مفهوم السياسة وتشكيل منظومة قائمة على الصداقة والتضامن، وإلا سيستمر إعادة إنتاج منطق القتل الناتج عن الحداثة الرأسمالية المتوحشة.
أما الورقة الثانية، بعنوان: "القانون الدولي والمحاكم الوطنية"، فقدمتها ثالیا كروجر وغمزة تُركيللي من جامعة أنتويرب، حيث تناولتا التحديات التي تواجه تفعيل القانون الدولي عبر المحاكم الوطنية، مستعرضتين تجربتين قضائيتين في بلجيكا، ومطالب المجتمع المدني بوقف كامل لتصدير أو نقل الأسلحة والمواد مزدوجة الاستخدام إلى إسرائيل، وحظر استخدام الأراضي البلجيكية كمعبر لهذه المواد، ووقف أي تبادل تجاري أو استثمار مرتبط بها، مع إشعار بلجيكا للاتحاد الأوروبي بنواياها الانسحاب من اتفاقية الشراكة مع إسرائيل. واعتبرت المحكمة أن الدولة اتخذت خطوات كافية، وأن هامش التقدير يتيح لها تحديد كيفية تنفيذ التزاماتها الدولية، مؤكدة أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة قانونياً، بينما تبقى الأحكام القضائية الدولية مُلزمة.
في الورقة الثالثة، قدمت دانا فراج من جامعة بيرزيت دراسة بعنوان: "التحديات القانونية ومآسي الشعوب أمام محكمة العدل الدولية: التغيير ممكن!"، وشاركت خلالها تحليلاً لمسار محكمة العدل الدولية في قضايا الشعوب المقهورة، مؤكدة أن التغيير القانوني ممكن لكنه بطيء ومشروط ببنى القوة السياسية، وأن المحكمة ليست وحدها القادرة على إنفاذ القانون، بل تنتج تفاعلات سياسية، وأن التغيير الفعلي مرتبط بالتحام دول الجنوب وخلفها شعوبها.
واختتمت الجلسة الثالثة بورقة أخيرة لـِ ووتر فاندنهول من جامعة أنتويرب، بعنوان: "الجامعات بصفتها قوى تحررية: تفكيك وبناء سياسات حقوق الإنسان في الجامعة"، حيث استعرض فاندنهول مسؤولية الجامعات في تبني سياسات حقوق الإنسان، مركزاً على الشراكات الخارجية وسلاسل التوريد والاستثمارات. وأوضح أن العديد من الجامعات الأوروبية، بما فيها بلجيكا وهولندا وفنلندا وإيطاليا وجنوب أفريقيا، بدأت بتبني سياسات المسؤولية المؤسسية، تشمل تعليق أو إنهاء التعاون مع الجامعات الإسرائيلية المشاركة في العنف في الأراضي الفلسطينية وغزة. كما استعرض خلفية تاريخية للنقاش حول الحياد المؤسسي، مستشهداً بتقرير "كالفن" (Kalven) حول موقف جامعة شيكاغو من حرب فيتنام، ومفهوم "الوصول المؤسسي" في فرنسا، مؤكداً وجود مقاومة متزايدة للحياد المؤسسي وتعزيز النقاش والمشاركة في اتخاذ القرارات داخل الجامعات لحماية حرية الأكاديميين وضمان سماع جميع الأصوات.
وفي الجلسة الرابعة التي ترأستها لينة ميعاري، قدم أسامة دياب من جامعة لوفان، المداخلة الأولى بعنوان:" الأنطولوجيات الاقتصادية لحركات التضامن مع فلسطين"، التي حلل فيها البنى الاقتصادية العميقة لحركات التضامن مع فلسطين، مشيراً إلى أن التضامن يكشف عن توتر بنيوي مع النظام الاقتصادي العالمي القائم على هيمنة رأس المال الكبير، كما تطرق دياب إلى السرديات المرتبطة بالمقاطعة، وذلك عبر تحليل الشبكات للحركات المؤيدة لفلسطين.
وتبعه حازم جمجوم من جامعة نيويورك بمداخلته بعنوان: "تغيير نظريات التغيير: مراجعة في ضوء صعود الفاشية" التي بحث فيها نظريات التغيير المتداولة داخل الحركات الشعبية، موضحاً أن صعود الفاشية وتصلب الأنظمة السياسية يفرضان إعادة التفكير في الاستراتيجيات المعتمدة لمواجهة الإبادة الاستعمارية. كما أكد جمجوم على أن الفشل في وقف الإبادة الجماعية شكل دليلاً واضحاً على عدم كفاية نظريات التغيير، مشيراً إلى أن الفاشية هي السمة الأساسية للنظام السياسي الدولي اليوم.
وفي الورقة الثالثة، قدمت بيان عرقاوي ومنيس الفار وطارق صادق من جامعة بيرزيت مقارنة موسعة بين الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الغربية والعربية خلال الإبادة في غزة، محللين أثر العلاقة بين الدولة والجامعة واقتصاديات التعليم العالي على أشكال التعبئة وحدودها. أما الورقة الأخيرة فقدمتها الكاتبة الروائية سوزان أبو الهوى، واستعرضت فيها أشكال القوة التي تمتلكها الشعوب خارج الأطر الرسمية، مؤكدةً أن الشارع والسرديات الأصلانية يشكلان فضاء مركزياً لاستعادة الفعل السياسي وتقويض رواية الاستعمار.
واختُتمت جلسات المؤتمر بكلمة مفتاحية قدمها السياسي والناشط الإيرالندي ديكلان كيرني بعنوان "توجد إمكانية لعالم مختلف"، دعا فيها إلى توسيع التحالفات العابرة للحدود وتفعيل الطاقات الشعبية بوصفها رافعة لإعادة بناء نظام عالمي أكثر عدالة. كما تناولت ورقة كيرني موقع فلسطين في التحولات الجيوسياسية الراهنة، مؤكداً أن التغيير التقدمي في العالم ما يزال ممكناً إذا أعيد الاعتبار لمبادئ التحرر الوطني التي شكلت، منذ الحرب العالمية الثانية، أساس النظام الدولي الحديث. كما توقف كيرني عند التحولات الكبرى في موازين القوى عالمياً، من صعود دور "البريكس"، إلى المبادرة التاريخية لجنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، معتبراً أن هذه التطورات تعبر عن انتقال متزايد في ثقل التأثير من الشمال العالمي إلى الجنوب العالمي. ورأى أن استعادة دور الأمم المتحدة وإحياء التعددية يتطلبان تعبئة دول الجنوب وأميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا في مواجهة النزعات الإمبريالية الجديدة.

