بدء أعمال مؤتمر مواطن السنوي الثلاثون: "وقع الإبادة في غزّة على مستقبل العالم وقراءة القضيّة الفلسطينية"
افتُتِحت صباح الثلاثاء، الثاني من كانون الأول/ديسمبر 2025، أعمال مؤتمر معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان – جامعة بيرزيت، في دورته الثلاثين، تحت عنوان: "وقع الإبادة في غزّة على مستقبل العالم وقراءة القضيّة الفلسطينية"، وذلك بصيغة هجينة تجمع بين الحضور في حرم الجامعة والمشاركة عبر الفضاء الافتراضي. شهد المؤتمر حضوراً واسعاً من أكاديميين وباحثين وناشطين من مختلف أنحاء العالم، اجتمعوا لمناقشة التحولات العميقة التي أفرزتها الحرب على غزّة على مستوى النظام العالمي، والقانون الدولي، والاقتصاد السياسي، وحركات التحرر.
وفي الكلمة الافتتاحية، رحب نائب رئيس جامعة بيرزيت للشؤون المجتمعية، د. علاء العزة، بالحضور من فلسطين وخارجها، مؤكداً أن مشاهد الدمار والإبادة في قطاع غزّة تقف اليوم في صميم انشغال الجامعة والمجتمع البحثي، وأن ما يعيشه الشعب الفلسطيني لن يثني الجامعة عن دورها في إنتاج المعرفة الداعمة لمشاريع التحرر. وأشاد بأهمية انعقاد المؤتمر في هذا الوقت الحرج، وبالدور الذي يلعبه التواصل الأكاديمي العالمي في تعزيز التضامن والعدالة.
من جهته، افتتح مدير معهد مواطن، د. مضر قسيس، جلسات المؤتمر بالتأكيد على أنّ انعقاد مؤتمر هذا العام يأتي في لحظة مفصلية، تتكشف فيها طبيعة المشروع النيوليبرالي العالمي وتحولاته نحو الفاشية، كما تتجلى بوضوح في المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة. وشدّد على ضرورة توسيع الفضاءات الفكرية والنضالية وربط النضال الفلسطيني بحركات التحرر العالمية، بما يجعل من فلسطين مركزاً رئيسياً في معركة إعادة صياغة النظام الدولي المقبل.
وتلا الجلسة الافتتاحية كلمة مفتاحية للدكتور جلبير الأشقر بعنوان: "غزّة بصفتها المسمار الأخير في نعش الليبرالية الأطلسية"، مؤكداً أن المشاركة في هذا المؤتمر تأتي من منطلق واجب التضامن. واعتبر الأشقر أنّ حرب الإبادة الجارية في غزّة تمثل أول إبادة جماعية تنفّذها دولة متقدمة تكنولوجياً، وتكشف حجم التناقض بين الخطاب الليبرالي الغربي والقيم التي يزعم الدفاع عنها. وتناول جذور التطهير العرقي الذي تأسس عليه المشروع الصهيوني، كما تطرق إلى التحولات في النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، بدءاً من ميثاق الأطلسي ومسار الليبرالية العالمية، مروراً بحروب كوسوفو والعراق، وصولاً إلى الحرب الباردة الجديدة وازدواجية المعايير الصارخة في تعامل الولايات المتحدة مع القانون الدولي. وأكد أنّ الحرب في غزة باتت حرباً أمريكية–إسرائيلية مشتركة، تكشف عمق التحولات الجيوسياسية الجارية.
انطلقت الجلسة الأولى، التي ترأستها الأستاذة ريم البطمة، بمداخلة للدكتور جورج جقمان بعنوان "العالم ما بعد غزة". وأشار جقمان إلى أنّ الحرب كشفت حدود النظام الليبرالي الغربي، وأظهرت التناقض بين خطاب حقوق الإنسان والممارسات السياسية الفعلية. وأضاف أن ما جرى في غزة أعاد ترتيب الاصطفافات الدولية وفرض حضور القضية الفلسطينية على جدول الأعمال العالمي. وحذّر من أن الشرذمة في الحقل السياسي الفلسطيني تتطلب بناء تنظيم وطني عالمي مثابر لمواجهة إسرائيل ومساءلتها.
وفي الورقة الثانية، بعنوان "فلسطين بصفتها بؤرة لصراع عالمي"، أكد طالب الماجستير في جامعة أرسطو، هاريس دامياندس، أن فلسطين باتت تمثّل ما يشبه خط التماس بين منظومتين عالميتين: الإمبريالية من جهة، والمقاومة وحركات التحرر من جهة أخرى. ورأى أن أزمة غزة تعكس تناقضات الرأسمالية المعولمة، وتعيد طرح السؤال حول إمكانية بناء نظام عالمي جديد.
أما الورقة الثالثة، فقدمتها الدكتورة إليف دورموس الباحثة في جامعة أنتويرب، بعنوان "فلسطين بصفتها نقطة تحوّل في 'ملكية' القانون الدولي"، وتناولت فيها التحولات في شرعية القانون الدولي واستخدامه كأداة هيمنة. وأكدت أن الممارسات الإسرائيلية أعادت طرح سؤال ملكية القانون الدولي ومعاييره ومن يحددها، معتبرة أن المقاومة الفلسطينية أصبحت فاعلاً رئيسياً في إعادة صياغة المعايير القانونية. وناقشت تاريخ احتكار القوى المهيمنة لتعريف القانون الدولي وتطبيقه، مقابل نضالات الشعوب وحركات التحرر التي أعادت تشكيله.
في حين قدّمت سلام بطمة طالبة ومساعدة بحث في معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان، الورقة الرابعة بعنوان "الإبادة المشتركة: الإنسان والطبيعة في النظام العالمي الجديد"، مركّزة على الترابط بين انهيار البيئة وانهيار الإنسان. ورأت أنّ العالم يعيش عنفاً بنيوياً شاملاً، وأن الحرب على غزة تشكّل مثالاً صارخاً للإبادة البيئية والإنسانية معاً. واعتبرت أنّ غزة ليست استثناءً بل هي التحذير الأخير، في ظل عسكرة المناخ وحروب الموارد وصعود الأوليغارشية الفاشية.
تلا الجلسة كلمة مفتاحية للمقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز، قدمت فيها تحديثاً حول التطورات القانونية الدولية للقضية الفلسطينية. وأكدت أن الإبادة في غزة تمثل أخطر انتهاك للمنظومة الحقوقية منذ الحرب العالمية الثانية، مشددة على مركزية حق تقرير المصير كأحد أعمدة حقوق الإنسان. وشاركت السيدة ألبانيز الحضور تعرضها لحملات تشويه واتهامات بالإرهاب لمجرد حديثها عما يتعرض له الفلسطينيون. ودعت إلى مواصلة النضال على نطاق تغيير الرأي العام العالمي واستعادة القانون الدولي لصالح الشعوب.
أما الجلسة الثانية، التي ترأسها د. باسل فراج، افتتحتها الأستاذة خالدة جرار بمداخلة بعنوان: "الرأسمالية والعنف في منظومة السجون الإسرائيلية في زمن الإبادة"، والتي سلطت فيها الضوء على ارتباط الرأسمالية والعنف الذي تمارسه قوات الاحتلال في السجون، كما عرضت هذه الورقة إلى واقع السجون ووضع الأسرى والأسيرات بشكل خاص مع التركيز على العنف الجنسي كمكون بارز من مكونات العنف الاستعماري الرأسمالي. كما أشارت إلى عدد من التجارب القاسية التي تتعرض لها الأسيرات الفلسطينيات من تعذيب واعتداءات وتفتيش مهين للكرامة الإنسانية.
في الورقة الثانية، ناقشت دينا تساي، وهي باحثة وطالبة دكتوراه في جامعة أنتويرب، موضوع "المسؤولية الجنائية للقضاة والمدّعين العامين في المحاكم العسكرية الإسرائيلية"، مؤكدة أن هؤلاء الفاعلين يتحملون مسؤولية مباشرة عن شرعنة التعذيب وسوء معاملة المعتقلين الفلسطينيين. وأضافت أن البنية القانونية للمحاكم العسكرية لا تعمل كجهاز قضائي مستقل، بل كأداة من أدوات الاحتلال لترسيخ منظومة السيطرة. وشدّدت على ضرورة مساءلة الفاعلين القضائيين دولياً باعتبار دورهم جزءاً من الجرائم المنهجية الواقعة على الفلسطينيين.
أما الورقة الثالثة، فقدّمها الاقتصادي مايكل روبرتس بعنوان "الدور الاقتصادي للإمبريالية في الشرق الأوسط"، حيث ربط فيها بين رأس المال العالمي والصراعات الدائرة في المنطقة، مشيراً إلى أن الإبادة في غزة تُوظف ضمن منظومة اقتصادية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل الإقليم بما يخدم مصالح القوى المهيمنة. وبين روبرتس أن الاقتصاد العالمي المعاصر يقوم على أنماط من الاستغلال تُستخدم فيها الحرب كأداة لتحقيق التراكم الرأسمالي، خصوصاً في المناطق التي تعد مفصلية في سلاسل الطاقة والتجارة. كما أوضح أن سياسات الخصخصة والديون وإعادة الإعمار تُستخدم لاحقاً لفرض نموذج اقتصادي يزيد من هشاشة الشعوب ويكرس من تبعيتها.
وقدم د. سليم أبو ظاهر، المستشار والباحث الأكاديمي المتخصص في الاقتصاد السياسي، الورقة الرابعة بعنوان "غزّة بين الإبادة وإعادة التخيل"، التي تناولت كيفية إعادة صياغة فضاء غزة ضمن مشاريع استعمارية متعلّقة بالإعمار والهيمنة، إضافة إلى تحليل دور التكنولوجيا والعمارة كأدوات للسيطرة والمراقبة. ولفت أبو ظاهر إلى أن الرؤى المطروحة لإعادة إعمار غزة ليست محايدة، بل تأتي محملة بأجندات سياسية واقتصادية تهدف إلى إعادة إنتاج السيطرة في شكل جديد. كما أشار إلى أن استهداف البنية التحتية والسكان يرتبط بمحاولة إعادة تخيّل غزة كحيّز يمكن هندسته وفق متطلبات الأمن والهيمنة، لا وفق احتياجات المجتمع الفلسطيني.
واُختتم اليوم الأول من أعمال مؤتمر مواطن السنوي الثلاثين بكلمة مفتاحية قدّمها الباحث والكاتب الكوري–الأميركي المتخصص في الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي لمنطقة آسيا–المحيط الهادئ، كي جي نوه، بعنوان: "غزة بصفتها مشروع استعماري". أكد نوه في كلمته أن الإبادة ليست حدث استثنائي أو طارئ في منطق القوى الإمبريالية، بل جزءاً بنيوياً من عمل النظام الاستعماري الرأسمالي الذي حكم العالم طوال العقود الماضية.
وأشار إلى أن التجارب التاريخية، من العراق إلى فلسطين، تكشف طبيعة هذا المنطق العنيف الذي يعتبر القضاء على الشعوب أو إخضاعها أداة مقبولة لتحقيق المصالح الإمبراطورية. وأضاف أن ما يجري في غزة اليوم يفضح انهياراً أخلاقياً وسياسياً في المنظومة الدولية، ويؤكد أن القانون الدولي نفسه بات يُستخدم بشكل انتقائي بما يخدم موازين القوى، لا حماية الشعوب.
وشدد نوه على أن التضامن الحقيقي مع الفلسطينيين يتجاوز الشعارات، ويتطلب مواجهة البُنى التي تنتج العنف والهيمنة، سواء عبر الضغط السياسي، أو التنظيم المجتمعي، أو مقاومة الخطابات المهيمنة التي تبرر الإبادة. كما دعا الفلسطينيين إلى التمسك بوحدتهم ورفض الانقسام.
وبذلك، يواصل مؤتمر مواطن السنوي أعماله حاملاً نقاشات غنية حول النظام العالمي، والقانون الدولي، وحركات التحرر، مؤكداً أن غزة ليست حدثاً معزولاً، بل معلما من معالم الصراع على رسم ملامح النظام العالمي القادم.

